قد نتفق على حقيقة أن «عصفورا في اليد خير من عشرة على الشجرة»، غير اننا قد نختلف في حال قلنا ان «قديماً في اليد خير من ألف جديد في الغد»، وللبشر لا شك قناعات راسخة مشحونة ببذور التمرد على فهم ما يتجاوز مدارات الفهم العصية على تقبل ما يقع خارج اطار الأفهام، فالقناعة الإنسانية بقديمها بئر ليس لها قاع وبرشاء أوهى من أن يحمل أثقال دلاء الجرأة على تقبل الجديد، ولهذا قالوا ان «الناس أعداء لما جهلوا» بمعنى أنهم أصحاب لما ألفوا حيث حينها تستنسخ الألفة قناعاتهم احجارا صلبة صلدة تتحطم عليها كل محاولات التغيير الجديدة مهما كانت هذه المحاولات هادفة ونبيلة وايجابية.
إن خوف الانسان من المجهول القابع خارج مساحات ادراكه يدفعه إلى التمسك بقناعاته القديمة، فالانسان في حقيقته الغرائزية مجبول على الشك مفطور على الريبة لاسيما حين تتجاوز المستجدات عليه حدود فهمه ومساحات أفهامه، وشك الانسان الغريزي هذا سلبي ليس له علاقة بما يعرف ب «الشك المنهجي» الايجابي القمين بدفع صاحبه إلى الأخذ بأسباب التفحص والتبين والتمعن بالجديد والحكم عليه- أو له- مقارنة بالقديم.
فالشك السلبي ناجم في الأصل عن فقدان المرء لثقته بواقعه المعاش الأمر الذي يجعله عرضة لأن يستدمج- فيما لو تقبل الجديد- الإحساس بالخسارة من ناحيتين في آن: وهْم خسارته لما ألفه واعتاد عليه من جهة وخوفه الواهم من الوقوع عرضة لمخاطر البديل المستجد من جهة أخرى، ولهذا تجده يتشبث بقديمه راضيا.. من الغنيمة بالإياب» كما يقول العرب في هذا المنحى تمثلا.
ان مجرد احساس هذا الانسان بالألفة مع قديمه يمنحه شعوراً زائفاً بالسيطرة على ظروف واقعه المعاش فلا غرو اذن أن تستيقظ غرائز الاصرار في كيانه رفضاً لتسخير الجديد بديلاً لقديمه، فالمسألة هنا نفسية في الأساس وليست- كما يعتقد البعض- رفضا من أجل الرفض، ولهذا السبب- أكد- ويؤكد- علماء التغير والتنمية على أهمية وضرورة العمل على تبيان وعرض منافع الجديد أمام أنظار رافض الجديد بل تقديمها له على طبق من «الهدوء» بطريقة لا توحي بقسرية أو اكراه.
أما غير تلك فنتاجه استحكام حلقات العداء المستحكم أساسا كما تؤكد ذلك مضامين القول المأثور عن أكثم بن الصيفي الذي نصه:«ويل لعالم أمر من جاهله».
ما هو الحل التعليمي لهذه المعضلة..؟!
الحل.. يتعين بضرورة تخصيب تربة المناهج الدراسية وترطيب جفافها لتصبح من ثم قابلة لاستنبات قيم «فن الاختلاف» التي من ضمنها قيم تقبل الجديد أو على الأقل منحه الفرصة المبدئية للتواجد حتى يثبت ايجابه ذاته أو ينفي بسلبه هذه الذات.
.. أما متى يتحقق ذلك..؟! يتحقق بمجرد أن نقرر نحن ذلك..
|