Tuesday 1st april,2003 11142العدد الثلاثاء 29 ,محرم 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

تفكيك الوهم ووهم التفكيك:الخطاب الثوري أنموذجاً..! «1/2» تفكيك الوهم ووهم التفكيك:الخطاب الثوري أنموذجاً..! «1/2»
د. حسن بن فهد الهويمل

بين مفهوم «الدول النامية» و« الدول النائمة» فاصل وهمي، محكوم بلغة دبلوماسية مخاتلة. وذلك سر التعثر، وناموس الفشل، وداء الاحباط واليأس. ومع ما يعتري هذا العالم الثالثي، - وبخاصة العالم العربي، بوصفه ذروة سنامه - من تفرق في الكلمة، واختلاف في الانتماء، واستفحال في الريبة والخوف، واستشراء للوهن والحزن، فإنه يمشي في أرض السياسة مرحاً، دون أن يخرق الأرض، أو يبلغ الجبال طولا. ورغم ضعفه، وضعته، وقلة حيلته، وهوانه على الناس، تراه يعيش حالة من النرجسية، وجنون العظمة، والمغالطة، وممارسة التحدي والتصدي، دون استعداد للمواجهة، أو إعداد للقوة. وكل ضربة تلقيه على الأرض، تمحو ما علق بذاكرته عن مشاكله ومكائد أعدائه، الأمر الذي يحمله على نسيان المآسي، والخلط بين الأعداء والأصدقاء، وتصديق الأوهام، والتخبط في الظلام. وما قصة «أشعب» منه ببعيدة، فلقد كذب على من حوله بدعوى الوليمة، ولما انطلقوا الى الوجهة التي أشار اليها، خاف أن تكون الكذبة حقيقة، فلحق بهم. والعالم المتنرجس بكل عيلته المستكبرة، لا ينفك من حالة الوهم والتوهيم، بحيث لا يفرق بين المبادرة والاسترفاد، ولا بين الأخذ بيد صاغرة والافتراس، ولهذا تراه عندما يدّعى أحدٌ من ثورييه أو متعالميه مشروعاً، أو يعلن عن حزبٍ، أو يحدث نظاماً، أو يختلس ظاهرة، أو يقلد نظرية، أو يظاهر قضية، يستلحق نسبها، ويزعم ابتكارها، ويتحفز للمقايضة عن حق الامتياز، ويتهم الآخر بسرقة النظرية، ويفتش عما يمكن أن يرافع من خلاله عن حقوق الملكية الفكرية، ويخفي موتها، كما فعلت «شجرة الدر»، ويميت ما سواها، كما يفعل المبهورون بنظريات الآخر. وإذا أعوزت أحد هؤلاء العصامية، لاذ بالعظامية، وإذا أعياه قول: ها أنذا، قال: - كان أبي، ثم لا يتردد في مزاحمة الأقوياء بالمخلب الغض والجناح القصير والتصدي لمن إذا قال فعل، يعرض المهتاج الأعزل لضربات موجعة، ويضعه تحت طائلة المراقبة والتقزيم، وهو لا يلوي على شيء مما يتعنتر به. وليس من شك أن مثل هذه الأوهام والأحلام تحال الى جنون العظمة، واستفحال الهلوسة، وعشق الذات. وهي خصال بادية للعيان. فالخطاب الاعلامي يجعل من الصحراء المترمدة جنة تجري من تحتها الأنهار، ويجعل الفظَّ الغليظَ ليِّن الجانب مخفوض الجناح من الذل. وكل فارغ من القيم المعنوية والمعرفية والموقفية، يجنح الى الحرية الفوضوية والثورية الدموية، ثم لا يجد حرجاً من منازعة السلطة، وشق عصا الطاعة، ومفارقة الجماعة، برؤية فجة، وقول ضعيف، ورأي مرجوح، وحجة واهية، ممعناً في سك المشاريع والاغراق في الادعاء العريض. يكون ذلك على مستوى المنظومة، وعلى مستوى أفرادها. فالأمة مجموعة أفراد يشكلون رؤيتها، والوادي المتدفق قطرات من المطر تتجمع ثم تتدافع، وهوس المشاريع عند الأفراد المتعالمين، تتناغم مع هوسها عند المؤسسات المتحكمة بمصائر الشعوب. ومثمنات العالم العربي وطاقاته استنزفها التجريب وأذهبت ريحها جرائر الايمان بالمبدأ أول النهار، والكفر به آخره. وكل نظرية يبادر بها الغرب، ثم ينبذها وراء ظهره، يتلقفها المنشَّؤون في الحلية باليمين، مدّعين أنها من بنات الأفكار، متحفزين للغيرة عليها، كما الغيرة على البنات الأبكار، فيما تبقى ثوابت الأمة كالأيتام على موائد اللئام. ومع ذلك لا يعدم أحدهم الغوغاء والفارغين، الذين ينفخونه حتى التورم والتوهم، منفضّين من حول المؤصلين المتحسسين عن الحق، ليكونوا غرباء، - وطوبى للغرباء -. ولمَ لا تكون الغربة؟ والرسول يأتي ومعه الرجل، ويأتي ومعه الرجلان، ويأتي وليس معه أحد. فيما يأتي عَبَدة الشيطان والفروج والبقر، ومن ورائهم سواد عظيم، وكم نتذكر البلابل، وهي تذاد عن دوحها، لتكون حلالاً للطير من كل جنس. وتزيين سيئ الأعمال لمقتحمي الصدارة الفكرية أو السياسية، تحجب الرؤية، وتعمق المحنة والابتلاء، وما أُتيت الأمة إلا من هذه النخب التي تمارس تفكيك الأوهام على أنها حقائق، وحين تنهض النخبة بمهمة التوسط بين السلطة والأمة أو بين المرسل والمتلقي تعيش حالة من الوهم، مشكلة ظواهر صوتية فارغة من أي معنى.
والظواهر الصوتية على مستوى الساسة والأدباء والمفكرين والمبدعين إفراز طَبَعي لهذه الأجواء الموبوءة بالدجل والادعاء، وحكم الفرد المتغلب المستبد، وتحكم المستعمر بمؤسساته ومساعداته ولعبه وعملائه. ولا يندُّ عن ذلك إلا من يبعثه الله على رأس كل مئة سنة، ليجدد للأمة أمر دينها، ولم تفقد الأمة مثل ذلك، تحقيقاً لوعد الرسول بالطائفة المنصورة. وأدواء الدول الصوتية كثيرة متناسلة، وكأنها زعيمة بحفظ النوع المكتوب عليه التخلف. ولو استمع المسكون بهم أمته، المتألم من تردياتها الى لحن الخطابات المتوارثة، لاستبان النمطية، والتناظر، وعدم التفكير بما تراكم من مشاكل واحباطات، وكل ما تجود به خطاباتها التلميع والتمييع والتحريف والتزييف. وكأنه محرم على هذه الأمة من المحيط الى الخليج مساءلة الذات عَمّا بدر منها. ولن يستقيم أمرها ما لم تراجع نفسها، وتحاكم فعلها، وتقوِّم منجزها، وتمتلك الجرأة والشجاعة على مواجهة الذات بكل ما هي عليه من مقترفات بحق الأهل، أو بحق الغير، ثم لا تجد غضاضة من المراجعة والنقد. ومن تأبى على الشرعة والمنهاج وفق ما تمليه عقيدة الأمة وتستهلُّ به دساتيرها، متجاوزاً حدود ما أبيح له، كره الناس انبعاثه، وانفضُّوا من حوله، ووكله الله الى حبال الناس المتهافتين على إمداده، بمقدار، وبثمن باهظ من كرامته وحريته. ومتى آلت الأحوال الى هذا المستوى، تفرقت به السبل، وضل الطريق القاصد، وتخطفه شرار الخلق، ليكون اللاعب الغبي، مزلقاً أمته في مهاوي المكائد. ولو نظر المتابع الى ما مرت به الأمة من أحلاف وأحزاب وطوائف ومبادىء، وما اعتراها من ضعف، وما اقترفه أبناؤها من تعديات على بيضتها، لعرف أن الضياع هو الرهان الوحيد. والأمة العربية مرت بفترات متفاوتة في أنماطها السياسية، وتقلباتها: الحزبية والطائفية والقومية والقطرية والدستورية، وفي تجريبها المتسطح، ولما تزل تجتر مآسيها، ثم لا تجد من يقيل عثرتها، وإذ يكون العاقل من وعظ بغيره، فانها لم توعظ بنفسها، على الرغم من النكسات الموجعة على كل الصعد، وعبر كل الفترات، ومن ثم تلاحقت نكباتها، وتضاعفت مصائبها، واضطربت في مشاريعها: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وتعارضت مصالحها، وتنوعت ألوان كتبها من «أخضر» الى «أبيض» الى «أحمر» الى «رمادي»، وكل زعيم يذهب في ادعاءاته العريضة، متألهاً بأوهامه، ومن ورائه بطائن سوء، تقلب له الأمور، وتزين له سوء الأعمال، وتحول بينه وبين المحب الناصح. وهذا الاستبطان، ينسيه ما يكتبه التاريخ، ويشغله عن التفكير بلحظة العودة الى بارئه، كما خلقه أول مرة، تاركاً ما خوّله وراء ظهره. وما من خطاب عاطفي أهوج، ارتفعت نبرته في تجريم سلفه، وتخوينه، إلا وهو وثيق الصلة بذات الخطاب المجبول على التخوين، والتخوين المضاد. والناس مرتهنون بين قادم على مطايا السلاح الذي اقتطع ثمنه من خبز الفقراء، ليكون عدواً وحزناً، يخيف به الآمنين، وهالك تكشف وعده عن غرور. ومع حدة الخطاب وصلفه، تظل الأمة بانحدار، مرتكسة في وحل الضعف، والتمزق، والافتقار الى أدنى حد من الامكانيات اللائقة بانسانية الانسان. وما تتعرض له الأمة اليوم من تدخل سافر، وقتل متوحش، وهدم متعمد لكل الامكانيات وخضد للشوكة، وإذلال للكبرياء، وحرق للأرض، وكسر للعظم، إنما هو ناتج طبعي لهذه الترديات. ولو أخذ المتألمون قضايا أمتهم من خلال سياقاتها، لما استنكروا تلك المآلات الموجعة. فالوضع العربي لا يمكن ان يتمخض إلا عما هو قائم من قهر واضطهاد. والقوي المتغطرس المتمرد على الشرعية الدولية يبحث عن الغنائم الباردة، وعن الشعوب المتخلية عن ثغورها، العاجزة عن افراز أنظمة ملائمة لمتطلبات عصرها.
وبامكان الأمة لو صدقت مع نفسها أن تقلب المعادلة، بحيث ترتد الى الداخل لتصنع الانسان، وتستغل الخيرات، وتصون المقدرات، وتفعل المؤسسات، وتحترم عمقها التاريخي والفكري، وكيف لها أن تفعل هذا والثورات المتلاحقة تتعمد طمس التاريخ الحديث، واستئناف تاريخ جديد يبدأ بعيد الثورة، ويعتمد على الخطابات الاقليمية القائمة على التخوين للسلف، في سبيل تزكية الخلف. والناس في ترقب خائف من احتقان يهدد بالانفجار عن ثوري، يمسح الذاكرة، ويمحو التاريخ، ليثبت ذاته بوصفه الأول والآخر، معيداًنغمة الادعاء، والاشكالية ان الناس ينطلقون في مواقفهم ثباتاً لا مجتمعين، يختلفون حول الحقائق التي لا تحتاج الى دليل، ويحتربون حول أتفه الأسباب، وكلما تطابقت المصالح تبودلت أنخاب الثناء وعبارات التزكية، ومتى اختلفت تفجرت النقائض، دون مقدمات أو مبررات، والذاكرة العربية «سبورة» مدرسية، لا تنفك من المحي والاثبات، ولا أحد يخجل مما قاله بالأمس، وذلك مؤشر امتهان للانسان العربي من ذويه، والشارع العربي خير مثال على غياب الوعي، تراه يهتاج ضد الشيء ونقيضه، عبر حركة غوغائية غير محكومة، مما يتيح للعابثين بمقدرات الأمة فرصة ذهبية، تمكنهم من ضرب بعضهم ببعض. ولو صدق المؤتمرون في القمم، وفيما دونها، مع أنفسهم، ومع من يلون أمرهم، ولم تأخذهم بالحق لومة لائم، وقالوا للمسيء أسأت، وللمحسن أحسنت، لعرف كل متصرف انه سينظر الى نفسه في مرايا الآخرين، ومتى عرف ذلك، أخذ حذره، واستعمل نفسه في سبيل الحق. وذهاب ريح الأمة يكمن في المداراة، والمجاملات، والتردد في المواجهات، والاشتغال في الأوهام. فكل زعيم فرضت زعامته شرعيةُ حكمه ومشروعية فعله، ومتزعمٍ انتزع الزعامة بالحديد والنار، يلتقيان على قدم المساواة، في اللقاءات، والمؤتمرات، وعلى ضوء «البروتوكولات» وقد يكون المتسلط أقوى صوتاً وأكثر هيبة واحتراما. وسنظل في خبال متى جاملنا أعداء الأمة من أبنائها، وحملنا العقلاء جرائر السفهاء، وأتحنا لمقترفي الجرائر مخادعتنا، يخطئون فنبرر، ويجرحون فنضمد، ويهدمون فنبني، ويكذبون فنصدق. ولن أطوف في مزبلة التاريخ الحديث، لآتي بالبراهين، فالواقع كالشمس في ضحاها، لا يحتاج الى دليل، وعلى المرتاب أن ينظر الى الحروب الاقليمية المجانية، التي أتت على الحرث والنسل، وامتدت لسنوات طوال، مخلفة ملايين القتلى وملايين المعوقين، ومدمرة البنية التحتية،ومعطلة مشاريع التنمية، ولو أن الآثار السلبية وقفت حيث المقترف لهان الأمر، ولكن الأمة العربية كالمستهمين على السفينة الواحدة، متى خرقها السفهاء، ثم لم يؤخذ على أيديهم غرقوا جميعاً. والشارع العربي مسكون بالوهم والغفلة، ولهذا تراه يتدفق كالطوفان ضد القرارات الجماعية، مجسداً الشيء ونقيضه، واقعاً في أتون الفتن، ولينظر المترددون الى قادة يسومون شعوبهم سوء العذاب، يذبحون أبناءهم، ويشردون كفاءاتهم، في سبيل لعب كونية خاضوها بكل مقدرات أمتهم، خلفت الذل والهوان، ولينظروا الى الاقتصاد وانهياراته، والى العملات وسقوطها، والى السكان ومصائرهم، بين المقابر والمشافي والسجون والمنافي، والى الأدمغة وهجرتها، والى الأموال وتهجيرها، ثم لينظروا الى التناحر الطائفي والقبلي، والى الخيفة التي يستنبطها كل من عنده أدنى احساس، واهتياج الشارع العربي يشرعن للتخلف والوهم. وكارثة الكوارث تكمن في نخب ثقافية وفكرية واعلامية تسبق العامة في الشرعنة للتخلف، وتمضي مع الأوهام، وتتاجر بمقدراتها في سوق النخاسة، تتخلل بألسنتها كما البقر، تزكي الخونة، وتساند الظلمة، وتزيف الوعي، وتشق عصا الطاعة، وتفرق وحدة الكلمة، وتفكك الجبهات الداخلية، وتستبق الأضواء، وتنتهز الفرص. والمتابع الحصيف يستبين ذلك، دونما عناء.

«للحديث صلة»

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved