ما تكشفه الأحداث
يخضع الإسلام في هذا الوقت الراهن الذي نعيشه إلى مزيد من التفحص والتدقيق، بل حتى المتابعة والتفتيش بين ثناياه، اهتمام مفرط جاء في أعقاب حادث مفاجىء، لكنه بات بمثابة التفكير الاستعادي بهذا الدين الذي كان يمر على أسماع الآخرين من غير المسلمين، من دون أن يتم الالتفات إليه بإمعان وتفحص عميق، ولعل اللافت في الأمر، أن الغرب وبعد هذه الموجة التي يقودها بإزاء الإسلام من الاتهامية، كشف عن الكثير من ملامح الخلل والضعف المعرفي والعلمي بالإسلام، حتى ليكون السؤال الاستنكاري وقد اقترب من هذا الادعاء المستمر الذي تم إلصاقه بهذا الغرب المتقدم الذي لا يدع للصدفة مجالا بل ان التداول الثقافي كثيرا ما أشار الى هذا التوسع الهائل والكبير في مجال مراكز البحوث العلمية، التي تعنى بدراسة المجتمعات المختلفة والعناية بالتفصيلات المتعلقة بالتطورات والأحداث والتفاعلات.
لكن طبيعة التعامل الصادرة عن الغرب بإزاء العالم الإسلامي، لاسيما بعد الحادث السبتمبري/ الايلولي، تكشف عن مدى الغياب الذي تعيشه مراكز صنع القرار في الغرب ذاته، وليس على مستوى المواطن الغربي العادي، حتى لتبرز الظاهرة اللافتة حول هذا الإقبال المنقطع النظير، لقراءة كل ما يتعلق بالإسلام والتفصيلات المتعلقة به، كأن الأمر يتعلق بدين جديد ظهر فجأة، وليس ذلك العالم الذي يتوسط الأرض، ليؤثر ويتفاعل ويؤسس مع المجتمعات البشرية الأخرى.
لقد غدا الإسلام مادة للدرس والتقصّي، بعد أن تسيّد الاهتمام والتفات العالم ولا بد هنا من الإشارة إلى أن الدرس العلمي والتقصي المنهجي حول الاسلام لم يكن غائبا بشكل إنهائي، لكن ردة الفعل وحجمها الصادرة عن الغرب، تكشف عن هذا التداخل والإرباك الذي حط على الجميع، بما فيها مراكز البحوث العريقة والمتخصصة بشؤون الاسلام، وإذا كانت التقسيمات الأوسع والأكبر قد توقفت عند هذه التوزيعات المرتبطة بشؤون الفرق والمذاهب، فإن الأمر اتخذ لبوسا فجائيا حيث طابع الصدمة المباشرة، التي غدت بمثابة العائق العقلي، الذي يصعب الوصول الى كنه التفسير فيه، هذا على الرغم من الإسهام المباشر الذي أدته قوى الغرب في تأجيج مجال الحس القتالي والصدامي في داخل الإسلام، من خلال استحضار معالم التحالف مع القوى الإسلامية نحو محاربة العدو المشترك، الذي تمثل بالاتحاد السوفيتي في غزوه لأفغانستان إلا أن تحولات القوى وتبدلات المراكز جعلت من هذا التحالف، عداءً معلناً بلغ حدّ الصدام الذي يشهده العالم اليوم.
الإسلام الرسمي
في طابع استعادي بدأ الغرب يكرس جلّ جهوده، نحو استقراء الملامح الرئيسة في الاسلام، وفي توزيع يحاول من خلاله الوقوف على ملمح التفاعلات المختلفة والمتنوعة القائمة فيه، بدءاً من الديني مروراً بالاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي ولعل المكمن الاصل في كل هذا، ان نقطة الارتكاز التي تحاول هذه القراءات الاتكاء عليها، تكون عند التوصيف الختامي أو الانهائي الكامن في الدعوة الاسلامية فلا غرو أن الطابع التوحيدي في الإسلام جانب واضح لا يمكن التغاضي عنه، فيما يكون التوكيد على هذه الملمح الانهائي القائم في الاسلام والنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) حيث الختام الذي لا يقبل جدلاً أو نقاشاً من المسلمين.
وبتأكيد حضور العقيدة والشريعة، فإن التوقف عند الاسلام يستدعي هذه النظرة الحرة، التي تجعل من المسلم مرتبطا بالله بشكل مباشر من دون وسائط أو نظام تراتبي، فالأهمية تقوم على التقوى، فيما يتم الدخول في التفاصيل المعرفية من خلال {الرّاسٌخٍونّ فٌي العٌلًمٌ} وهم الفقهاء الذين ينالون التقدير والتبجيل من المسلمين.
الحياة الاسلامية تعيش تفصيلات اليوم، بشكل شديد المباشرة، وإذا ما برز التيار الأصولي الذي يصعد من حدة التشدد حول أهمية الارتباط بأصول الشرع والعقيدة، فإن هذا لا يعني الخروج عن القانون الوضعي الذي يسود الواقع ويعمل إلى تجسيد حالة الانضباط في المجتمع المدني. فحتى القانون المدني لا يخرج عن أهمية الانضواء في مشروعية التشريع الإلهي، الذي يتم استنباط الاحكام الأساسية فيه، من خلال الارتباط الوثيق بالشرع والدين، ومن هنا فإن ثمة ضابطاً دينياً يظهر بهذا القدرأو ذاك، في صلب العملية التشريعية المدنية.
إن التوكيد على الطابع المؤسسي الذي شمل الحياة الحديثة في العالم الإسلامي، لم يجعل هذه المؤسسات خارج نطاق الضبط الفقهي، الذي يتجلّى في المعاملات والمواريث والعلاقات الشرعية والقرابة والعائلة والأسرة بل ان الفقهاء يكون لهم الدور العميق في ضبط العلاقات التي يحددها القانون، بكل تفرعاته القيمية والعرفية، ومدى تعالق وتآلف المجتمع معه. وإذا كانت المؤسسة الرسمية تعمد إلى تقديم مبدأ التعددية والعمل على توحيد مصالح الرعايا العاملين والمنضوين تحت لواء وجسد الدولة الواحدة، فإن الإقرار الرسمي هنا لا يخلو من أهمية عمق الإشارة المباشرة إلى أن الإسلام هو دين الدولة الإسلامية الرسمي.
بحثاً عن الشرعية
في محاولة ترصد التوزيعات والتقسيمات، نجد التعالق وقد اتخذ مسار الفرز بين الموقف السياسي الذي تحاول المؤسسة الرسمية حيازته والعامل الاجتماعي المرتبط بمفهوم الأمة، حيث الارتباط بالإجماع الذي تشكله الأغلبية في تحيين موقف ما بإزاء القضايا الكبرى، هذه المسألة يتوقف عندها الكثير من المراقبين الغربيين ويعمدون إلى دعمها بالتداخل المفضي إلى تعطيل حركة الدولة ومؤسساتها الرسمية في سبيل تحقيق الغايات والاهداف. ومن هذا التداخل المفرط في التلفيقية، يبرز محتوى الخلط في مستوى الفهم الكامن حول الطبيعة الوظيفية التشريعية للدين الإسلامي في صلب مؤسسة الدولة.
فالأمر لا يتوقف عند مطلب أدائي مباشر، قدر تعلقه بوظيفة اجتماعية، قوامها تقديم التنظيمات التي تتطلبها حاجات الفرد الاجتماعي داخل وسطه، وإذا ما برزت الأهمية للفقهاء من المسلمين في المجتمع الاسلامي، فإنها تبقى حاضرة في مجال المكانة والتقدير والاعتبار. وما بين الديني والدنيوي، تبرز سلطة القانون الذي يعمل على الاقتباس والتفعيل المباشر نحو توطيد أواصر الشرعية، لا لنظام حكم واحد بل نحو التوافق مع الاختلافات والتنوعات التي تفرزها أنظمة الحكم، بحيث يكون مجال النظر مركزا نحو قيم الدستور العليا من دون التلاعب بها، نحو تدبيج مصلحة أية قوة طارئة. وعليه فإن الدستور في تجلياته التطبيقية يكون في أشد حالات الارتباط بأهمية وجود قوة داعمة، تجعل منه قادراً على فرز التجاوزات التي تعمد إليها بعض الجهات والقوى، ومن هنا ينشأ التحالف بين الشريعة بكل منظوماتها الاعتبارية والسلطة السياسية، التي تستمد شرعيتها وقوة تأثيرها من خلال هذا الارتباط.
إن التوقف الطويل عند الجانب الشعائري في الإسلام، يجعل من الدارسين الغربيين واقعيين في أيسار الأوهام، التي تؤدي بهم نحو الدخول في مساحات واسعة من الاستغراق التنظيري الواقع في أيسار اللبس والتداخل فهم عادة ينظرون إلى الإسلام كوحدة واحدة على صعيد المذاهب، لكنهم من زاوية أخرى يعمدون إلى إفراز مجالات التنوع القائمة فيه، بوصفها دلالات وعلائم انشقاق، ومن هذه الرؤية تكون الاحكام مرتبطة بالغايات والاهداف المبيّتة، والمتطلعة الى تكريس رؤية مسبقة غير قابلة للاخذ والرد حتى لتكون الوجهة الحاكمة وقد استغرقت في هذا التوحيد للإسلام الصادر عن رغبة ثابتة في الاستهداف.
طريقة القراءة
يكشف التقاطع المباشر في مكنون الرؤية الحاكمة بين الطرفين؛ الإسلام والغرب، فهذا الأخير ينظر الإسلام بعين الريبة والشك في صلب اكتماله التاريخي وليس القدسي على اقل تقدير لكنهم من جانب آخر لا يغفلون الأهمية الحضارية والمكانة التي بلغها الإسلام على مستوى تحقيق المعادل الإنساني وابراز مجالات التعبير الذاتي بقوة ومكانة واضحة.
من أصل المباشرة السياسية والاجتماعية، عكف الإسلام على تحقيق تجربته على مستوى الواقع، بل ان الإنشاء والتأسيس يكون هو الأصل في تحقيق هذا البناء والتشييد، كما في دولة المدينة التي أنشأها الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومن هنا فإن فكرة الدولة الأمة جاءت لتعبر عن نفسها في سياق واحد غير قابل للتجزئة أو التقسيم وإذا ما ظهرت الانشقاقات والانقسامات الداخلية منذ عهد مبكر في جسد الدولة الإسلامية، فإن حالة الاستمرار الحضاري بقي يستمد جذوره وشرعيته من مدى الترابط الوثيق بالدين الاسلامي.
أما على مستوى التلاقح المعرفي والفلسفي، فإن الحضارة الإسلامية قيّض لها اللقاء والمزاوجة مع التيارات الفكرية الإنسانية، حتى استطاعت أن تجسد نموذجها الفكري الأصيل، بتمثل قوامه التفاعل مع كل اطياف اللون الذي تفرزه الحياة، من دون سيادة لطرف على الآخر، بل إن قيمة الإسلام الحضارية تتبدى في هذه الفسحة الهائلة من تراث التسامح الذي لا يني عن التجلي والظهور في مختلف المراحل والحقب التاريخية.
إن السعي إلى تكريس مجال التداخل، هو ما ينشده القارىء والملاحظ الغربي في طريقة استقرائه لواقع العلاقات السائدة في العالم الإسلامي، حتى لتكون الإشارة إلى توزيع الإسلام خطأ إلى قسمين رسمي وشعبي، وكأن هذا الأمر يتعلق بالإسلام فقط، وليس بجميع الظواهر الإنسانية وحتى طريقة التفكير التي تسود العالم فالإدراك كصيغة عقلية، لا يمكن بلوغه بمستويات واحدة، احتكاما الى قوام الفروق الفردية، التي تكشف عنها النظريات العلمية الحديثة والطالعة من الغرب نفسه، لكن محاولة تكريس الأثر، تعمد الى هذه القراءة التجزيئية، من اجل إقرار الرؤى الكامنة في دخيلتهم، ومن هذه الزاوية التي تمثل فهمهم يكون الوقوف على أنه ثمة إسلام رسمي يخضع لموجهات العلاقات الدولية، واسلام آخر بحسب توصيفهم شعبي، يخضع لارادة القوى الاجتماعية الحاكمة والفاعلة في بنيات المجتمع الإسلامي، التي تظهر في تجسيد العلاقات القبلية وقدرتها على البروز والاستقلال عن سلطات الحكم المركزي.
|