المرأة العراقية التي ما برحت منذ ثلاثة وعشرين عاماً، تدفع إلى شدقي الحرب شظايا روحها، وقطع مهجتها من ابن وأب وزوج وأخ، والبنيان الذي تقوم عليه حياتها، وأعمدة هيكلها، تقدمهم العام إثر العام لآلة الحرب الجهنمية التي لا تشبع. إلى الآن رجالها في الجبهات الأربع للمأساة محاربون بلا قضية إلا إن كان الدفاع عن القائد المهيب المتواري في مخبئه.. قضيتهم.
وهي تقاد من مكان عملها من مدرستها، ومن غرف منزلها لتنطلق في مسيرات تهلل بها لشيطان الحرب.
كيف عليها أن تفهم معاني من نوع «الصمود والفداء والاستبسال والكرامة»، وهي تعيش في وطنها بلا كرامة، كيف ستترجم الإباء والكبرياء، وكبرياؤها معتقلة خلف الخوف والاضطهاد والحكم الديكتاتوري الوحشي الذي سحق تلك المعاني جميعها تحت حذاء جندي ثقيل؟
كيف تتبنى الماجدات قيماً اختطفت منهن لعقود طويلة، كيف ستدافع عن الإباء والإباء مفردة قاموسية لا توجد على أرض الواقع منذ تلك اللحظة التي كانت اللقمة تختطف من فوق مائدتها وتذهب إلى خزانة الحرب، وحين كانت الأدوية تتناقص من فوق الأرفف وتذهب إلى الجبهة فلا يعود لطفلها دواء يخفف قتامة الأيام، أين ستفهم المرأة العراقية مفردة الصمود، هذا الصمود الذي لم تتعلمه في الشارع ذلك الشارع المزدحم المليء بالجياع والعسكر، الشارع الذي يضطهد ذهابها وإيابها بمنحدراته بسدوده بشحة تجهيزاته في مدن تفتقد البنى التحتية والشكل اللائق للتجمع الإنساني، ما هي الكرامة وأطفالها تدفعهم إلى مدارس فقدت أولويات البيئة التعليمية الصالحة حيث لا هناك سوى صور القائد المهيب، وصوت هدير الحرب الذي طال فصلاً دراسياً في بغداد ذات يوم «أيام الحرب العراقية الإيرانية».
أين مفردات الصمود والتحدي الذي يولول بها مسؤولو ومنتفعو الحكم في العراق الآن ويطلبون من المواطن أن يتبناها ذلك المواطن الذي ظل تحت الحذاء العسكري لدهور طويلة كيف تريدون منه أن يشرئب الآن ويثور على الغزاة، بعد أن كان مجرد تلفظه بكلمة ثورة أو تمرد من الممكن أن تقوده إلى أقبية النظام الحاكم المليئة بالأسيد المذيب.
وما برحت المكلومة والثكلى والمحزونة والملتاعة، تتكلم بلسان الذعر، وتهلهل بلسان مجروح مبحوح فتأتي «هلاهلها» كنواح طويل يخترق الصدور، كصياح القطار في قصيدة مظفر النواب «يا ريل صيح بقهر يا ريل».
ما هي الأعجوبة التي يطلبها النظام المجرد من الماجدات من نساء العراق اللواتي فرغ بيتها من الزوج، وغاب طفلها عن المهد، وليس من أب وأخ توكئ عليهم حزنها ليس هناك سوى صور الشيطان المهيب تملأ بغداد وتمنع عنها الضوء والغد.
|