إنها (ساعة الحقيقة). هكذا قال، في ختام (قمة الأزور)، ذاك الذي نصّب نفسه سادنا للحقيقة، متحدثا باسمها وباسم كوكب الأرض، وهوالفار، مع رفيقيه، من وجه الحقيقة. الحقيقة، كل الحقيقة، إنما تسكن في جثة الصبية الامريكية راتشيل التي سحقت بجمجمتها وأطرافها الجرّافة العسكرية التي تدعى شارون، الذي عدّه بوش (رجل سلام)!!
قبل ساعات من جرفها وسحقها وهي تحاول بجسدها الطري منع الجرّافة شارون من هدم بيت لاجىء فلسطيني في مخيم رفح نطقت بالحقيقة التي لا تشوبها خرافة إذ قالت: (بوش، أنت مجرم حرب!).
ما الذي جنته هذه الصبية، التي تمثل الوجه الحضاري والإنساني المضيء لاميركا، حتى تلقى هذا المصير؟!
راتشيل إنما صرعها الوهم إذ جلست على الأرض وكأنها تقول للجرّافة شارون: (إمّا أن تهدم البيت مارا على جسدي وإمّا أن تمتنع). رجل السلام لم يتردد في الاختيار، فاختار أن يكون وفيا لما جبل عليه!
توهمت راتشيل أنّ جنسيتها الاميركية قد تكون حصانة لها، وأن إسرائيل، وعلى رغم كونها قوة احتلال في (الاراضي الفلسطينية) يمكن أن تكون كما وصفوها لها في موطنها (دولة ديمقراطية وحضارية وإنسانية)، وأن هذه الدولة يمكن أن تقتل الفلسطيني دفاعا عن النفس، أي إذا ما القى حجرا على دباباتها، وأن جرّافتها، وفي أسوأ الأحوال، قد تهدم البيت الفلسطيني بعد إبعادها من طريقها، فهذه الصبية لم تكن تمسك قنبلة بيدها أو تشد زنّارا ناسفا على وسطها، كل ما فعلته أنها جلست على الأرض معترضة سبيل الجرّافة ومعبرة عن اعتراضها على جرائم شارون في حق المدنيين الفلسطينيين الأبرياء العزّل. وكل ما كان ينبغي للجرّافة شارون فعله، لو بقي لديه أقل إحساس بالانتماء إلى عالم البشر، هو أن يزيح راتشيل عن طريقه، التي رسم لها بوش (خريطة) وهو في طريقه الشارونية الى بغداد عبر الأزور!
من أراد (الحقيقة) التي قال أن ساعتها قد أزفت، فعليه أن يبحث عنها، وسوف يجدها، في جثة الصبية الأميركية راتشيل (الدرة)، التي هي (المسيح) وقد عاد ثانية إلى المكان ذاته، وفي زمان يشبه الزمان ذاته، ليُقتل، هذه المرة، على الأيدي ذاتها التي صلبته أول مرة، فالعالم الذي غادرته راتشيل من فلسطين هو عالم يهوذا الاسخريوطي، الذي بأقل من ثلاثين من الفضة يبيع الأقدس لدى البشر، وعالم روما وقيصرها، الذي على يديه الملطختين بدم الإنسان (تهوّد) ...
راتشيل التي جاءت إلى فلسطين لتقف في وجه الجرّافة شارون، حليف (عصابة تكساس)، هي أميركا العظمى في إنسانها وقيمها ومبادئها، هي أميركا التي لا تمت بصلة لأميركا تكساس التي تقطر دما ونفطاً وشارونية من رأسها حتى أخمصي قدميها!
في الأزور اجتمعت القوة العظمى في العالم ليس مع دولتين أوروبيتين وإنما مع (شخصين) أوروبيين. اجتمعوا في جزيرة نائية تقع في (منتصف الطريق) بين الولايات المتحدة وأوروبا.
هربوا من هزائمهم السياسية والديبلوماسية في الأمم المتحدة، ومن هزائمهم الشعبية والأخلاقية في مواطنهم.. هربوا من العالم كله، الذي ما عادوا ينتمون إليه، لعلهم يصنعون من هذه الهزائم نصراً عسكرياً على العالم كله!
جاء من تكساس إلى الأزور ليقول لأوروبا: (في الأزور فحسب يمكنك رؤية مستقبلك ومستقبل علاقاتك بالولايات المتحدة)!
الأزور تنتمي جغرافيا إلى أوروبا عبر دولة لا تنتمي إلى (أوروبا العجوز) هي البرتغال. في الأزور تُخزّن قنابل نووية أميركية، وتملك الولايات المتحدة سيطرة عسكرية، ويجتمع مع قيصر العالم الجديد في قاعدتها العسكرية قادة (أوروبا الجديدة) الذين لا يقيمون وزنا لا للرأي العام في دولهم ولا للرأي العام العالمي، ويتمتعون، كما أزنار، بتأييد 2 في المائة من الشعب، ولا شيء يجمعهم سوى غنائم وأسلاب الحرب والتمثيل الصادق الأمين الصريح لمصالح حفنة من أصحاب الشركات الكبرى، الذين يريدون، الآن، حكومات من طراز (شبه آسيوي)، تأتمر بإمرتهم، وتلتزم شريعتهم، وتتخذ سياسة إلقاء الرعب والفزع في قلوب مواطنيها سلاحا في محاربة كل ما لديهم من أسلحة ديمقراطية، يكتشفون الآن، أنها أسلحة مصنوعة من الوهم والخداع والتضليل، فلا شرعية دولية ولا رأي عام عالمي ولا مظاهرات ومسيرات شعبية ولا صلوات مؤمنين.. يمكن أن تقع لدى (الثلاثة) على أسماع تشبه سمع العالم!
في الأزور سيمر خط الطول الأرضي (التاريخي) الجديد، الذي عنده (لا عند خط غرينتش) سيبدأ العالم توقيتا جديدا، فقمتهم، التي لم تدخل التاريخ إلا لإخراجهم من التاريخ، أمهلت فرنسا وألمانيا وروسيا والصين ومجلس الأمن الدولي والمجتمع الدولي كله يوما واحداً لا غير لإعلان خضوعه لإرادة بوش في إخضاع العراق، درّة تاج (إمبراطورية تكساس العالمية)! أيّ رئيس حريص حقا على الإجماع الدولي وعلى الكرامة القومية لدولة مثل فرنسا لا يمكنه قول ما قاله الرئيس بوش إذ خاطب شيراك قائلاً، أو كأنما يقول له: (إذا كنت رجلا فالتزم بالتزامك استعمال الفيتو)!
ألم يقل بوش في الأزور (فرنسا كشفت أوراقها عندما هددت باستخدام الفيتو.. سنرى ما هي حقيقة هذه الأوراق).
الجشع كما الخوف لا يلد سوى الحماقة، وقد ولدها في الأزور؛ والآن سيشرع الجشع يمارس الحماقة انطلاقاً من العراق؛ ولكن متى كانت الحماقة ترحم صاحبها!
عندما كان بوش الأب رئيسا، وسمع (نبأ) وفاة الاتحاد السوفياتي، متأثرا بتناوله جرعة كبيرة من دواء (الإصلاح) الذي حضّره على عجل المصلح الأكبر غورباتشيوف، قال، في لهجة الأباطرة القدامى، انّ الله كان خير حليف للولايات المتحدة إبّان الحرب الباردة، فتمكنت بفضله من إحراز هذا (الانتصار التاريخي الجليل) على (إمبراطورية أبليس)!
والآن، يشعر الأب بالقلق على مصير فلذة كبده، الذي صمم على السير، وحيدا، في درب وعرة محفوفة بالمخاطر؛ ولكن ما نفع قلق الأب على الابن إذا كانت مشيئة الله هي التي شاءت أن تجعل خلاص البشرية من (إبليس العراق) على يديّ بوش الابن، الذي كان ضالا، خاطئاً، تائها، معاقرا للخمر، فهداه الله، وغفر له؛ ثم كافأه إذ جعله رئيسا!
لقد كتب بيير جورج في (لوموند) الفرنسية مقالة عنوانها (بوش يُصلّي!) شرح فيها ماضي وحاضر العلاقة التي تربط بوش بالله، وكيف أن سيد البيت الأبيض يؤمن بأن الله لا أصوات الناخبين هو الذي جاء به إلى الحكم؛ ثم أوحى إليه بأن قرار شن الحرب على العراق واحتلال آبار النفط هو (قرار إلهي) تنزل عليه، ولا يحق له، بالتالي، أنْ يدع مجلس الأمن الدولي أو (الرأي العام الدولي) أو الجماهير التي نزلت إلى الشوارع في عواصم ومدن العالم.. تعيث فيه فسادا!
الكاتب الفرنسي يقول بأنّ أحدا لا يمكنه فهم بوش الابن حق الفهم إلا إذا فهم أولا كيف ينظر بوش إلى نفسه ودوره، فهذا الرجل، الذي تحيط به جوقة من المشعوذين والمحتالين الذين يغرسون في رأسه الأساطير والخرافات، يؤمن بأنه (مبعوث العناية الإلهية)، وبأن لا خيار له سوى أن يسابق الشيخ أسامة بن لادن في الفوز برضا الله!!
وللذي يتوق إلى معرفة الطريقة التي يصنع بها بوش القرارات التي تؤثر بمصير العالم والجنس البشري نقول أنّ هذا الرجل لا يؤمن بأن السياسة هي بنت العلم والفن، أو بأنّ لها جذورا في (العالم الواقعي). إنه ينظر إليها على أنها فرع من فروع (اللاهوت)، وينبغي له، بالتالي، أنْ يمارسها ممارسة (لاهوتية).
قبل، ومن أجل، أن يقرر أي قرار يصلّي الرئيس بوش (صلاة استخارة)، فيختار عبر هذه الصلاة قرارا من بضعة قرارات متماثلة في المحتوى، زوّده بها، من قبل، أولئك الذين يفهمون السياسة فهما دنيويا (ونفطيا) صرفا، فيخرج من صلاته متوهماً أنّ الله قد ألهمه قرار ضرب العراق، مثلا!
وإذ استبد هذا الوهم برأسه الصغيرة، التي تسندها نفس كبيرة، أبدى إصرارا على رفض الاستماع إلى أي رأي مخالف، ولو كان رأي ناخبيه، فالوحي أوحى، وما عاد ممكنا دينيا أو دنيويا، الأخذ برأي آخر!. وحتى لايجد نفسه غريبا في معتقداته وأفعاله أوحى الصنّاع الحقيقيون للسياسة إلى كل العاملين في البيت الأبيض بتحويله في هذا الوقت العصيب إلى ما يشبه الكنيسة، فزائروه لا يرون سوى الصلوات والأدعية. وفي مؤتمر صحافي عقده قبل بضعة أيام في البيت الأبيض أجاب الرئيس عن بعض الأسئلة (السياسية) إجابات تليق بكاهن لا برجل دولة، فقال: (إن إيماني يحملني على الصلاة يوميا. إنني أصلّي حتى يقودني هذا الإيمان.. حتى تمنحني الصلاة الحكمة والقوة. وإذا ما وقعت الحرب فسأصلّي من أجل الجنود.. من أجل سلامتهم وأمنهم)!
ولم ينس المؤمن بوش، الذي يصلّي للسلام وهو يُعدّ لحربه اللصوصية، أنْ يشكر (آلاف الناس الذين يصلّون لأجله)؛ ولكنه نسي أنْ يشكر جميع الكنائس التي ترجوه ألا يشن الحرب!
ممثلو شركات النفط والسلاح الكبرى أقنعوا بوش الابن، عبر ممثليهم من المشعوذين والمحتالين، أنّ شنّه الحرب على العراق واحتلال (المارينز) لآبار وحقول النفط فيه وفي جواره لسيا عملا من أعمال الحياة الدنيا؛ وإنما (إرادة إلهية) خص الله بوش، الذي كان ضالاً فاهتدى، بالتعبير عنها وتنفيذها، وأقنعوه بأنّ هذا (التكليف الربّاني) يجب تنزيهه عن أمور تافهة من قبيل (الإجماع في مجلس الأمن)، و(الشرعية الدولية)، و(الإرادة الحمقاء) لملايين البشر الذين نزلوا إلى الشوارع في عواصم ومدن العالم، (ومراعاة مصالح) فرنسا وألمانيا وروسيا والصين!
أقنعوه بأنّ (الصراع الدولي)، الآن، ما عاد صراع مصالح وحقوق؛ وإنما صراع بين معسكري (الخير) و(الشر)، وبأنّ واجبه المقدس أن يعمل في سبيل تسريع العودة الثانية للمسيح من خلال تذليله العقبات التي تحول دون بناء (الهيكل الثالث)، الذي إذا قصر عن مساعدة شارون في بنائه سيتحمل وزر إبطاء وتأخير هذه العودة!
هذا هو بوش المتعجرف المتكبر في سلوكه السياسي. إنه خادم ذليل لمشيئة الرب، التي بفضل إيمانه القوي الراسخ، لا يستطيع أن يراها على حقيقتها الواقعية، مشيئة تختفي وراءها مصالح فئوية ضيقة لشركات النفط والسلاح!
وهذه هي صلاته التي ستنزل على أطفال العراق موتا ودماراً وجوعاً وتشرداً، فلا يرى في الجرائم التي تقترفها يداه سوى خدمة جليلة يسديها هذا (التائب لرب العالمين، الذي لم يؤمن به إلا بعد تهويده)!
هكذا يصلّي بوش؛ أمّا نحن فنكتفي بصلاة لا يسندها سيف بتّار!
بوش يصلّي؛ ولكنه يصلّي في وقت يحشد (البنتاغون) الجيوش، ويزور مسؤولو (السي. آي. إيه) النواب الأتراك المعاندين لإقناعهم بأنّ لديهم ما يثبت أنّ بيوتهم من زجاج إذا ما ظلوا ممسكين عن أخذ (الجزرة)!!
لقد سمعتُ رجل دين أميركي يخاطب جمعا شعبيا مناهضا للحرب، قائلا: (عليكم بالصلاة، اتركوا الشوارع واذهبوا إلى الكنائس، صلّّوا وأوقدوا الشموع وادعوا، فتجربتي الشخصية أقنعتني بأنّ الصلاة تنجح حيث تفشل السياسة. إذا أردتم منع الحرب فاكثروا من الصلاة والدعاء).
كلا، فليس بالصلاة وحدها نحول دون وقوع الحرب. لو كان بوش يخوض الحرب بالصلاة وحدها لأمكننا بالصلاة وحدها منعه من شن الحروب!
صلاة لا سيف يسندها لن تؤدي إلى منع الحرب؛ وإنما الى التشجيع عليها، فصقور (البنتاغون) يتمنون أن يكتفي المعارضون للحرب بالصلاة والدعاء في بيوت الرب حتى يمارسوا الحرب في حرية أكبر وأوسع، فاللص لا يحضك على الاستقامة والأمانة إلا ليتيسر له سرقتك!
ونحن تقنعنا تجربتنا الشخصية بأنّ الصلاة والدعاء وحدهما، أي من دون قوة وسيوف تسندهما، لا تردعان ولا تهزمان شرّيرا، فكم دعونا على إسرائيل، لنحصد مزيداً من الهزائم الواقعية!
الصلاة وحدها لن تحرف صاروخ (كروز) عن مساره، ولن تحوّل (القنابل الذكية) إلى (غبية) فترتد الى مطلقيها منفجرة فيهم. لن تجعل أطنان القنابل تنزل بردا وسلاما على أطفال العراق، أو تبني البيوت بدلا من هدمها على رؤوس قاطنيها!
الولايات المتحدة أعادت (الصراع) إلى حقيقته العارية من كل خرافة ووهم وتضليل، فداست (الشرعية الدولية) و(الرأي العام) و(إرادة الشعوب) و(إرادة شعبها)، داست حتى (العقل) و(المنطق)، وقرار ممثلي (الأمة التركية) في وقت تدعي أن جيشها جاء لنشر الديمقراطية عندنا!
فهل نظل مستمسكين بأسلحة من ورق في مقاومة هذا الشر المستطير الذي يلبس لبوس الخير العميم؟!
لقد أثبتت لنا ولكل شعوب الأرض أن الديمقراطية وحقوق الإنسان والشرعية الدولية حديث خرافة، وأنّ الخشب والورق لا يفلاّن حديد (البنتاغون)!
( * ) كاتب فلسطيني الأردن
|