لو كانت الظروف أقل مأسوية وخطورة، لقلنا إنها مزحة أطلقها المستر توني بلير, رئيس وزراء بريطانيا... فروح الدعابة جزء لا يتجزأ من الميراث الثقافي والحضاري البريطاني كما نعلم. ولكن هذه المرة يصعب الاعتقاد أن بلير أراد أن يمازح صدام حسين، عندما طلب منه أن يخرج الى التلفزيون العراقي ويصرح بأنه يملك أسلحة دمار شامل وهو يريد الآن تدميرها. وبقية الشروط الستة معلومة ومنشورة, ولا جدوى من تكرارها. بيد أن الوضع المتأزم , سواء في الشرق الاوسط, أم في مجلس الأمن الدولي, أم في حزب العمال البريطاني نفسه, لا يذكرنا بالضرورة بمسرحيات برنارد شو, ولا يدعو أحداً للمرح على حساب أعصاب الآخرين, تمهيداً لما يبدو أنه حرب قادمة لا محالة.
الاعتقاد أن المستر بلير لم يكن مضطراً لإعلان شروطه الستة - كتعديل للقرار المقترح على مجلس الأمن من طرف امريكا- قد يكون وهما. فرئيس الوزراء يسعى بأية حال للمحافظة على جمهوره وقاعدته في الداخل, في الوقت الذي لا يمكن أن يظهر فيه بمظهر الضعيف المتراجع, بعد أن ذهب شوطاً بعيداً في إدانة النظام العراقي, بصفته لا يمكن التعامل معه ولا حتى سنة أخرى فقط. وتبين أن توني بلير , - مثل جورج بوش- غير قادر على تحمل فكرة وجود صدام حسين في الحكم 12 سنة أخرى ورؤية الشعب العراقي يجدد البيعة له كل مرة بنسبة 100 بالمائة. ولاحتى معارض واحد!.
ومن جهته فإن الرئيس العراقي قد لا يجد في شروط توني بلير ما يفيده في تجنب الحرب. بل ربما كان العكس هو الاصح. فهل يعقل أن يعطي أحد لعدوه السوط الذي سيجلده به؟ فكل ما ينتظره الأمريكيون والبريطانيون في هذا الوقت بالذات هو أن يعترف لهم العراق بما أصر الى حد الآن على إنكاره, أي: امتلاك أسلحة دمار شامل. ولو افترض أحد أن هذا الخيار يصح، وأن يذهب صدام غداً الى التلفزيون ويقول: نعم، لدينا أسلحة, وقد أخفيناها إلى حد الآن لاعتقادنا بأننا سنحتاجها للدفاع عن أنفسنا لتوقعنا العدوان, ونحن اليوم على استعداد لتدميرها بالكامل... الخ, الشروط. فماذا سيقع آنذاك؟هل سيتجنب العراق الحرب؟
الجواب المحتمل هو أن الأميركيين سيردون على النحو التالي : ألم نقل لكم إن العراقيين كانوا يخدعوننا؟ كيف يمكن الآن أن نتيقن بأنهم لا يكذبون مرة أخرى؟ وكم سيستمر التفتيش؟ ومن يضمن أنه بعد أن ينتهي عمل المفتشين هذه المرة أيضا, لن يعود العراق إلى إنشاء برنامج تسلح آخر؟ وبعبارة أخرى, فإن نوع الاعتراف الذي تطلبه لندن لن يقود إلى تجنب الحرب بقدر ما سيقود الى ايجاد ذريعة مباشرة لإنهاء كل الترددات، وحسم الأمر داخل مجلس الأمن, وعودة الولايات المتحدة للسيطرة على مقرراته, وجمع ما تحتاجه من تأييد. والحال أن الدبلوماسية - كالحرب - تقوم أيضاً على الخدعة. وفي مثل هذه اللعبة تجوز أيضا «الضربات تحت الحزام» كما يقول الملاكمون... طالما أن الحكم لا يرى شيئا, أو إذا رأى فهو لا يفهم أو لا يحصي. ومن هو الحكم هنا؟ البعض يتصورون أنه الرأي العام, في حين نعلم جميعا أن الرأي العام يمكن صنعه واصطناعه والتلاعب به وتوجيهه, بنفس الطريقة التي تجعل خبراء الإعلان يقنعون الجمهور بشراء منتوج جديد , قد لا يختلف في الواقع عما لديهم. ولكن الناس يتصورون أن الجديد فيه فوائد أكبر.
والبعض الآخر يعتقد أن الحكم قد يكون البرلمان الذي يواجهه كل من توني بلير وجورج بوش.
ولكن هذا الأخير مثلا قد حصل على تفويض من الكونغرس يمكنه من إعلان الحرب على العراق متى يشاء. ولا غرابة في ذلك فهذه الأزمة تأتي في أعقاب 11 أيلول/ سبتمبر, أي أن الولايات المتحدة تقوم باجراءات دفاعية وأمنية لا مثيل لها. ولا مفر أيضا من أن يعتقد العديد من الأميركيين أنه ولئن كانت «القاعدة» هي التي ضربتهم, فضرب العراق سيعطي درساً لأعداء أمريكا, ويجعلهم يرون بعيونهم ما هي القوة التي يسعون لتحديها. وفي نفس هذا السياق.. قام البنتاغون يوم الثلاثاء الماضي كما تعلمون بتجريب «أم القنابل» - هكذا سموها تذكيراً لا يخلو من التهكم ب«أم المعارك»- , وهي قنبلة جديدة رهيبة, لها قوة القنابل الذرية في مفعولها الخاص, دون القتل. أي أنها حسب ما يقولون تقطع القوة الكهربائية، وتوقف عمل جميع الاجهزة، دون الفتك بالناس. وأما إذا كان الحكم هو مجلس الأمن الدولي, فتلك هي الدجاجة التي نحن الى الآن بصدد ترييشها - نزع ريشها- كما يقول المثل! وإذا كان الطبيب الذي ندعوه لعلاج المريض مصاباً هو أيضا بنفس الداء, فمن أين يأتي الدواء؟
ومن ثم , فماذا بقي؟
المتعلقون بالسلام عديدون, كما نرى. لا بل إنهم بلا شك الأغلبية الغالبة, في كل مكان , بما في ذلك الولايات المتحدة . والذين يطالعون الصحافة الامريكية يعرفون عما أتحدث. ولكنهم ليسوا بالضرورة أولئك فقط الذين خرجوا في المظاهرات. فالصحفيون والدبلوماسيون غالباً من أنصار السلام. ولكن المشكلة هي ما هو السلام المطلوب؟ وسأذهب الى أبعد من ذلك, حيث أزعم أن الخلاف الحالي بين أعضاء مجلس الأمن الدولي ليس خلافاً حول الحرب أو عدم الحرب بقدر ما هو في الحقيقة خلاف حول طريقة التوصل الى السلام كحل نهائي بين العراق ومحيطه. فالناس هناك انقسموا بين من يدعو الى حل مع وجود صدام حسين في السلطة وبين من يعتقد أنه لا يمكن التوصل إلى سلام مع بقاء النظام الحالي. وبالتالي, فهذا الخلاف حول مفهوم السلام هو الذي قد يقود الى الحرب.
وأي غرابة في ذلك؟ فليست هذه هي المرة الاولى في تاريخ الامم المتحدة، التي نرى فيها خلافاً حول مفهوم السلام يقود الى الحرب. هل تذكرون كامل فترة الحرب الباردة؟ ألم يكن الاتحاد السوفياتي آنذاك يتصارع مع الغربيين بالذات حول مفهوم السلام في أوروبا الشرقية؟ ألم يقع إسقاط حكومات وأنظمة لهذا الطرف أو ذاك فقط من أجل تحقيق تصور معين للسلام؟ وماذا تقولون عن كامل تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي؟ أليس هو إلى حد ما تاريخ البحث عن السلام والاصطدام بين مفاهيمه المختلفة؟
|