كانت دموعه تتساقط بغزارة وكأنه قد قرأ عبر ملامح وجهها البارد نوع الضياع الذي سيتعرض له بعدها.
يقبل جبينها القبلة الأخيرة وينظر إليها بحسرة، فهذه المرة غيبها الموت عنه بعدما توقفت نبضات قلبها وهدأت أنفاسها على مرأى منه، فقد تزوجها وأحبها ولو أنه في بعض الأحيان يجعل لأفكاره السوداء ووساوس شيطانه فرصة التغلب عليه فيصرخ في أعماقها ويرعبها ويبكيها لأتفه الأسباب..
ولأنه أحبته وأخلصت له تحملت ذلك وهي تعزي نفسها بأنها تصرفات خارجة عن إرادته وربما أنها نظرة حسد هبطت على منزلهما الآمن فما يكون منها غير الانزواء بأحد أركان الغرفة وتنزف مرارة الموقف من كبدها من خلال قطرات الدموع المتساقطة!؟
ويعود.. ويعود.
ويشعر بالندم ويؤنب نفسه في كل لحظة فترجع أيام العشرة الجميلة بينهما على ما يرام وتمر الأيام ويقترب منه شيطان انسي يهمس في أذنه «لا ترق لها.. لا تظهر لها حبك فهذه امرأة احذر.. فكر بالأخرى فما الذي يضير في ذلك فلديك المال والحلال»؟؟
وتعصف الرياح مرة أخرى وهو يرى تصرفاته ويراقب ألفاظه معها.. ويخلو بنفسه ويفكر ويبكي بمرارة وهو يراها أمامه محبة مخلصة صابرة لأن قلبها لا يحتمل فراقه عنها لأنها أحبت بصدق.
ويكبر المنزل ويضج بالصغار وتصاب بوعكة لم تمهلها كثيراً.
ويراها.. ويراها ولأول مرة يقرأ عبر محياها خطوط الحيرة والألم ونظرات المستغيث به من شبح الموت وهي ترفع يدها له وتمسك أنامله برجاء أن يكون بجانبها فهي لا تستطيع البعد عنه لحظة واحدة..
لم يتمالك ما يعتمل بكيانه من ثورات وهو يشعر بفقدها.
قال لها بأنها ستشفى وتخرج وتعود لمملكتها وسيصحبها معه برحلة جميلة رومانسية لن تنساها كسابقاتها من الرحلات فهي بقلبه فقط.
رف طرف رمشها بحسرة وهي تؤمل على كلامه وابتسمت وغابت.
كانت لحظات الموت تداعب أوصالها بين الحين و الآخر وهي لا تعلم.. وهو لا يعلم..
حضرت الممرضة وعند تفحصها لجهاز الضغط ونبضات القلب اصفر وجهها وبهتت نظراتها فهي تسمع زوجها يكلمها ولم يعلم بأنها رحلت.
أغمضت عينها بسلام وكأنها سبقته لتلك الرحلة الجميلة.
حضر الطبيب واستدعاه إلى مكتبه وبدأ بالتدريج حتى أوصله إلى نقطة النهاية.
أدعو لها بالرحمة؟؟!!
حضر اخوته وإخوتها وصبروه وطلبوا منه رباطة الجأش أمام صغاره.
انقضى على رحيلها ثلاث سنوات حتى رضخ أخيراً فوالدته وحتى والدتها تطلبان منه النظر في حاله وأطفاله الأيتام فأكبرهم بالتاسعة!!
ويتقدم ويخطب ويتزوج وكأنه بدأ ينسى وتتلاشى من مخيلته صورتها ورائحة عطرها.
ولكن لم يجد ما كان يجده منها!!!
فقد كان يغضب كعادته.. فتثور هي عليه وترد غضبه بأبشع منه.
وتتكلم بمنطق العقلانية عندما يعاتبها فتقول: نهرتني لسبب تافه من الطبيعي أن أرد عليك، فالحياة أخذ وعطاء ومناقشة..
فيصمت ويتكوم على نفسه...
الصغار تأقلموا معها ومضى زورقهم بنوع من الأمان ولو أنهم ينظرون لكل من حولهم بحقد.. وكراهية فقد أحسوا بأن عليهم السير للأمام.. وللأمام فقط دون الالتفات لجوانب الحياة ومباهجها!؟
كانت إنسانة ذات شخصية قوية تؤدي ما عليها وتأخذ ما لها.
حضر ذات ليلة متعباً فقد أرهقه العمل ودخل منزله وتمنى أن يجد العشاء الدافئ وذهب إلى غرفتها فوجدها تقهقه بالهاتف مع إحدى رفيقاتها وعندما رأته حيَّته واستمرت بالحديث حتى أصابه الضجر فأشار لها بيده أن تنهي المكالمة.. رمقته بنظرة استهزاء وتابعت!!
ضجت أعصابه وقام مسرعاً إلى سماعة الهاتف وأقفلها، فثارت بوجهه وهي تؤنبه على تصرفه وأن من حقها الحديث متى أرادت مع صديقاتها، وليذهب إلى المطبخ إن كان جائعاً ويعمل ما يريد من طعام فهي مرهقة مع أولاده وأولادها طوال اليوم ومن الطبيعي أن تأخذ قسطاً من الراحة والترفيه ولو من خلال الهاتف.
انتصب واقفاً وهو يصرخ بأعلى صوته بأنها زوجة مهملة غير مبالية بزوجها.
شيء واحد فقط قامت بعمله.. هو التوجه إلى فراشها والنوم وهي تتضجر منه ومن العيش معه!!
مر على غرف أولاده الذين أصبحوا رجالاً وأطل بر أسه على كل واحد منهم حتى أحس بنعمة النوم التي أطبقت على أجفانهم بنعيم وهم بعيدون عن عالمه، المليء بالأوجاع فأحسَّ بعلامات جحودهم المبكر.
ويدور الزمن ويكبر الصغار ويشق كل واحداً منهم طريقه وحتى هي طلبت منه الانفصال لأنها لا تستطيع خدمته والبقاء معه.
ويبقى وحده.. يرمي بجسده المنهك على أحد الأرائك في بهو المنزل ينظر إلى أشعة الشمس التي استطاعت الدخول إليه عبر شقوق النافذة.
ويرحل مع سمفونية الذكريات التي انتزعته فوراً ويتأمل.. ويضحك.. ويتحدث بل يصرخ!!
ولكن.. وحده فقط.
|