مدخل أحداث اللحظة، أو لحظة الحدث لا بد أن تترك صورة أخرى، غير التي عايشناها ............
أمسكت ملفا خاصاً، تعلوه ذرات الغبار، نعم، لكنه ملف مختلف، لا يوجد فيه مذكرات دراسية، ولا نماذج أسئلة، ولا قائمة طويلة بأسماء الطالبات ولا حتى هيكل بال لنشاط من الأنشطة، انه يعبق بذكريات قديمة، ويتضوع منه أنفاس سكنت بين زوايا خافقي برهة من الزمن، هنا تكمن أهميته دون غيره من الملفات، عرفته من اللون الذي يحمله .. والعبارات التي كتبت على ملصق صغير يقبع على واجهته، لم أكن أريده! ولم أبحث عنه، لأن اللحظات لا تصلح للقراءة فيه .. شعرت وأنا أقلب صفحاته كم هي الحياة جميلة عندما تجد أنك قضيت وقتاً ممتعاً بين قلوب تزخر بصنوف مختلفة من العواطف القديمة التي سحقها الزمن في دورته اللاهثة، والتي جعلتنا مجرد آلات، بل تعدى ذلك إلى عواطفنا فوسمتها بتحجر مقيت !!.
أدركت أن اللحظات الجميلة، بل والحقيقية في حياتك هي تلك التي تضحك فيها من أعماقك، لا تلك التي ترتسم فيها ابتسامة صفراء باردة على شفتيك ببرودة من حولك!! وقع نظري على مفكرة صغيرة بين الأوراق، أخذت أقلبها، لم أكن أريد منها شيئا، ولم أكن أتوقع أنها ستجرني وراء ذكريات عابقة لروعة الأسماء المتكدسة في تزاحم شديد بين سطورها إلى درجة لا تسمح معها لتدوين اسم إضافي .. أسماء كثيرة، مع كل اسم نكهة خاصة، وتتزاحم الأرقام أمام كل اسم ... ومع كل حرف في المفكرة تنبعث ضحكات، قهقهات تنساب قطرات شفافة، تتغير الملامح حسب ظروف الاسم وملابسات كثيرة معه!!.
وقع نظري على اسمها، وفي لهفة غريبة قرأت رقم هاتفها، رددته، وكأنني تلميذ يسترجع حفظه لاختبار الغد! نعم، إنني أحفظه تماما كما اسمي، حتى لو لم أجده في المفكرة فإنني أتذكره جيدا، بل أتذكر تلك اللحظات الدافئة التي جمعتني بصاحبته .. تذكرت ابتسامتها الندية فانفرجت شفتاي عن ابتسامة عريضة وكأنني أبادلها إياها رغم بعادها! تذكرت دمعاتها الدافئة والتي طالما أسكبت عبراتي، حتى قبل أن أعرف السبب!.
تذكرت يدها الحانية عندما تصافحني كلما التقينا وكأننا كل مرة نلتقي لأول مرة! تذكرت وداعها عندما افترقنا، تذكرت أموراً كثيرة ..
تاقت نفسي لإعادة الماضي، أردت محادثتها .. كم مر من الوقت وأنا لم أسمع صوتها ولم أرها؟! كنت أعللها دائماً «بأن الافتراق لا يعني النهاية»!.
كنت اطمئنها أننا لا بد سنلتقي، إن لم يكن في الفانية فهو في الباقية بإذن الله ...
لم أشعر بنفسي إلا وأنا في الصالة قرب جهاز الهاتف، مددت يدي بدأت أدير قرصه .. ثم أتوقف فجأة وأفكر .. هل سترد هي؟! هل ستتذكر وجود ماذا لو لم تتذكر ؟! ماذا لو لم تعرفني؟! ماذا لو لم ترد، أو حتى ماذا لو ردت والدتها؟! لطالما تذمرت من اتصالاتنا الطويلة التي تستغرق فترات من الزمن ليست بالقصيرة !!!.
أبعدت هذه الأفكار الخالية من الروح عن دائرة تفكيري، وجذبت سماعة الهاتف، وبدأت في إدارة قرصه من جديد... أتممت الأرقام السبعة، يا إلهي قلبي يخفق بقوة وكأنما يريد الانعتاق من بين ضلوعي! ماذا أفعل؟ أأغلق السماعة؟ ليتني أدرت القرص .. ليتني ....
نعم ... مساء الخير ... هل بالإمكان أن أحادث هزيم ؟
أنا هزيم، من أنت ؟!
كانت الكلمات أشبه بحجارة توجه إلى أذنيها .. لقد أوقرت سمعها، وكأنها لا تريد سماع المزيد !! شيء ما يتحرك في روحها ويجري عبر شرايينها .. من أنت ؟! جاءها الصوت قوياً صارماً ، حسنا لا بد من التحمل ... هلا عدت بالذاكرة قليلا؟! صدقيني ما عرفتك، اعذريني، لكن هلا كشفت عن هويتك ؟!.
أنا ... أنا ... وجود، ماذا؟ من وجود؟ عذراً فأنا الساعة فقط أسمع بهذا الاسم !!! هذا سهم آخر موجه هذه المرة إلى شغافها ... وطالت المدة يا ترى حتى لم تعد تتذكر، أم انه البعد الذي أنساها ؟ أم الزمن الذي طبعنا بالجمود والمادية البغيضة ؟!.
عفواً، هل بالإمكان أن تذكريني؟! وهذا نوع آخر من القتل الذي لا يعاقب صاحبه !!! عفواً، ألا تسمعينني ؟!
أنا، و .. جو .. د، من؟ وجود؟ كانت نبرات صوتها هذه المرة أشبه بالفرحة، وكأنها استطاعت أخيراً أن تطوف بذاكرتها لتلتقط من بين الأسماء المتزاحمة فيها اسمي «وجود»، لا بد وأنها عرفتني، لكن شعور ما يداخل روحي... آه، لا، لم أعرفك حسبتك جود صديقتي ، عفواً ...
خيبة أمل عظيمة تجثم على روحي، أنفاسي تتسارع، ذكريات كثيرة تتتابع داخل مخيلتي ... أتذكر عندما قالت «لا أريد تركك وجود، فأنت حقا وجودي !!! هل كانت كلماتها بلا معان؟!! عبارات طالما حفظتها كما أناشيد الابتدائي لترددها عند الحاجة !! هل كانت تعي ما تقول، وما تتلفظ به، أم إنها تهذي بألفاظ لا تدرك مدى القيمة فيها، ولا الروح التي تحملها؟!!
هل كانت في غير وعيها ؟!
نعم، لم تكن في وعيها، أنا متأكدة، سواء في تلك اللحظات أم هذه اللحظة!!.
إذا لا داعي لأن استمر في هذا الحوار الخالي من الروح، بل انه يخلو من أقل معاني الحياة، نعم إنها الدنيا مادية بغيضة، وآلات تتقنع ببعض الوجوه لتصل إلى ما تريد في لهاثها المستمر في الحياة ...
أيقظها من أفكارها الصوت الآخر، عفواً عزيزتي .. يبدو أنك أخطأت في أرقام الهاتف وإن تشابهت الأسماء، فاعذريني لأنني مضطرة لإنهاء المكالمة! شكراً ... لأنك بددت الغيوم التي انتشرت على سمائي ....
أعدت الملف مكانه، وأخرجت المطلوب، وعدت إلى الآلية المقيتة لإنجاز أعمال الغد.
كانت دمعة حارة انسكبت على كفي ... لا أدري ما الباعث لها؟ أكانت توديع المشاعر، أم هي من آثار الغبار الذي ملأ كفي .... «كياني» من ذلك الملف ...
فأنا شديدة الحساسية له !!!!.
|