Friday 28th march,2003 11138العدد الجمعة 25 ,محرم 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

أوقفوا من أجل الانسانية أوقفوا من أجل الانسانية
عبدالله بن ثاني (*)

سئل افلاطون في لحظات الموت: ما هو الكتاب الذي تمنيت تأليفه؟ فأجاب قائلاً: إنه الغباء السياسي، ومنذ أن توفي قبل ألفي سنة تقريباً وإلى هذه الساعة والأرض تعيش نزيفاً متزايداً نتيجة ذلك الغباء السياسي على مر العصور الذي يصعد المواجهات المسلحة مؤكداً أن الحرب فشل سياسي ذرشطيع، ومهما أطلقنا عليها من مصطلحات الحرية والإنقاذ فإن ذلك لا يعني شرعيتها من خلال قرارات تسعى بكل طاقاتها إلى جلب الشقاء والفناء للجنس البشري وبخاصة بعد التطور التكنولوجي في آلاتها وأجهزتها وخططها الشاملة في ظل الغباء السياسي الذي قال عنه مارتن لوثر كينج: «لا شيء في العالم أكثر خطورة على الناس من الغباء»، لأنه يساعد في كل مرة على قتل مزيد من الأبرياء تحت مبادئ مزيفة ومصطلحات معقدة تذكي نار الحروب بين الشعوب عرقياً ومذهبياً وبمباركة من الغباء المفتعل الذي يتجاهل ضحايا الحرب العالمية الثانية مثلاً وينسى أن أكثر من 68 مليون إنسان ذهبوا ضحية لمبادئ الفاشية والنازية، وضحايا هيروشيما ونجازاكي تجاوزوا «100» ألف إنسان، فضلاً عن الآلاف المؤلفة الذين ذهبوا بفعل الجوع والأمراض الفتاكة والعقوبات الجماعية والتجارب الذكية وغير الذكية، وها هم يحتفلون بنوبل كل عام ولم يدركوا أن حفنة الملايين التي يعطونها فرداً من هذا العالم لا تكفي أن تغطي بؤس الآخرين ولا تمسح آهاتهم بسبب البارود الذي اخترعوه، ولا تعيد أطرافهم المبتورة بفعل الألغام والقنابل التي خلفها المستعمرون والطارئون في أراضي مستعمراتهم، ويحتفلون أيضاً بجنرال أشبه ببرميل الفودكا امتلاء وعافية تفيض غضباً، يدعى الجنرال ميخائيل كلاشينكوف الذي يحتفي به وببندقيته الرشاشة «اليوبيل الذهبي»، وهو مزهو، فتنتفخ الأوداج وقد أثقلت قلبه النياشين الروسية والأوسمة الشيوعية، وطوق رقبة مدينته الروسية ذلك النصب التمثالي بعد أن بيع من هذا الرشاش أكثر من سبعين مليون قطعة قتلت الأبرياء والأطفال والعجزة وملأت هذا الكوكب بالمعاقين والمرضى بالاكتئاب والوسواس الحربي، بل إنهم يشاركون في المؤامرة على هذا العالم عندما يضفون على المستبدين والمستعمرين صفات الشرعية وعلى الحروب مهما كانت صفات الحرية، ولا ينسى التاريخ إطلاقهم على الدكتاتور الروسي جوزيف نيساريو نوفيتش ستالين «أبو الشعوب» وراية الكفاح من أجل السعادة المقبلة للإنسانية، والمفكر العبقري والمرشد، وعلى بعض الثوار والثورات صفة الجماهير وصفة الفاتحين والمخلصين والمنقذين حتى نسوا أنفسهم فألفوا في الفكر الأخضر والأدب الأحمر ولكن على طريقة العسكرتاريا المستبدة التي تشعر سكان هذا الكوكب بالخيبة والحزن من رائحة البارود والفتيل والطين، في زمن المؤامرات والمحن الكبرى على يد الأنظمة العسكرية ضد الأبرياء الذين نسجت لهم الأكفان، وللأسف يفتخرون بألسنتهم أنهم أنجزوها على الطريقة المتمدنة في النضال والمقاومة ولم يدركوا أن تصرفهم يعلن أن هذا الكوكب حزين وأن القاتل والمقتول مهزومان إنسانياً، وليت العسكرتاريا أدركت قول الجاحظ وهم يدكون بصرته الآن: «لا تذهب إلى ما تريك العين، بل اذهب إلى ما يريك العقل». وسمعوا صرخة السياب تحت نصبه «غريب على الخليج»:
ليت لي صوتاً
كنفخ الصور يسمع وقعه الموتى
هو المرض تفكك منه جسمي وانحنت ساقي
فما أمشي ولم أهجرك
إني أعشق الموتى لأنك منه بعض..
والأدهى من كل ما يجري أنهم يفتخرون بأضخم عملية إغاثة في التاريخ، ويسعى السيد كوفي عنان إلى إصدار قرار من مجلس الأمن يمنحه الصلاحيات اللازمة لتوفير الاحتياجات الأساسية والإمدادات الإنسانية والوعود البراقة لنشر الديمقراطية والحرية تحت اختراع منظومات قيم جديدة تبشر بالكوزموبوليتانية لتذويب الهوية والشعور الصادق بالانتماء إلى هذا الكوكب الذي رسمت على جسمه الصلب جمجمة وعظمتان متعاكستان لأطراف كائن كان يعيش على ظهره ذات يوم، ولم يكتف الطارئون بدفنه وشوائه على طريقة الدجاج المسحب، بل لونوا هذه اللوحة بالدم الأحمر متجاوزين القراصنة في البحر الذين لونوا تلك الجمجمة وما حولها باللون الأسود شاهدين على بؤسهم وطريقتهم البدائية مقارنة بما يجري في هذا العالم.إن الزمن للوطنيين وحدهم الذين يقدسون الإنسان والتراب والثوابت ولا يعطون الطارئ مبرراً تحت أي ذريعة شوهاء باسم الديمقراطية والحرية والمساواة، لأن الوقت غير مناسب، والأمة في وضع مختلف يؤكد الوحدة الوطنية والاجتماع والالتفاف حول القيادات والعلماء الكبار، ويؤكد على التوعية الشعبية والوقوف أمام الأخبار المزيفة والشائعات التي تطلقها خفافيش الظلام التي تطل برؤوسها في الأزمات مستغلة الظروف وشاهدة على تصرفاتها بالنفاق والارتزاق مثلما كان يفعل النفاق إبان العهد النبوي في المدينة المنورة، وسيعاملهم الطارئ بالطريقة ذاتها التي عامل بها نابليون بونابرت جاسوسا ألمانياً تعاون مع فرنسا ضد بلاده، فسأله عما يريد؟ فاكتفى الجاسوس بطلب سهل لا يكلف نابليون أي خسارة، وقال له: أحلم منذ زمن طويل بمصافحتك أيها الامبراطور، وكان نابليون يمتطي جواده في ساحة القصر، فصمت قليلاً ثم ابتسم وقال له خذ ما تشاء إلا هذه المصافحة ليعطيه درساً وشهادة تثبت خيانته وارتزاقه ويكون مثالاً سيئاً لمن يبيع وطنه ولا يدرك قيمة التراب بل إن المارشال بيتان حاكم جمهورية فيشي في الجنوب الفرنسي لم ينعم عليه الجنرال ديجول بعقوبة الإعدام بسبب شيخوخته ذلة وحقارة..
والزمن أيضاً للتراب الذي سيبقى طاهراً في هذه الأفلام السينمائية المرعبة من جراء بساطيل الجنود وجنازير الدبابات وخنادق الغزاة والطارئين الذين حرثوه بآلاتهم المرعبة ولم يدركوا أنه مقدس في نظر هذه الأمة؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم جعله نائباً عن الماء في العبادة إذ قال: فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره، ومن المضحك المبكي أن هذا العالم بمنظماته وهيئاته يحرم أسلحة الدمار الشامل وهذا عمل إنساني يستحقون الشكر عليه إلا أنهم يستخدمون في حروبهم قذائف اليورانيوم المنضب وهي في حكم أسلحة الدمار الشامل في القانون الدولي، فأي تناقض هذا وأي عقل لا يدرك خطورة هذا السلاح الذي تبقى آثاره لقرون عدة في الأرض لا تزول بانتهاء الحروب، إذ تتحول 70% من جزئيات القذيفة إلى أوكسيد اليورانيوم تنتشر في الهواء والماء والآبار الجوفية وتغطي مساحة لا تقل عن عشرة آلاف كيلو متر مربع، مما يؤدي إلى إصابة الكائنات الحية بأمراض فتاكة بفعل المواد المشعة، ولا أدل على ذلك من ارتفاع حالات السرطان في الدم والعظام والرئة وتليف الكبد والكليتين وفقر الدم والتشوهات الجنينية في أرحام النساء ويؤكد هذا أن الآثار والآلات المدمرة في حرب الخليج الأولى بقيت في المنطقة ولم تؤخذ إلى بلادها.كل ذلك يجعلني أبالغ في لوم الذات أكثر من لوم الآخر القارئ الذي يبحث عن تحقيق مصالحه القومية؛ لأننا نعطيه مبرراً لبلوغ مآربه ونحقق له بغبائنا السياسي ما يسعى إليه ونختصر عليه الطريق، ونقدم له من حيث لا يشعر كل الخدمات والامتيازات بسبب تصرفات تجهل حقيقة تلك الذات وقوة ذلك الآخر.. لقد أصبحنا في زمن الجليد ولا نملك ناراً كافية لصنع الطعام وإضرامها في الحطب المبلل حداً لا يوصف، ولا نملك ماء نتطهر به ولا نملك تراباً نتيمم به للعبادة التي حان وقتها وإن كان الكاتب الروسي «هرنبورج» كتب ذوبان الجليد تعبيرا عن وداع الخوف فإنه يعني لنا في هذا الشرق الخوف ذاته وسيكتسح الأرض ويعمها بالطوفان والخراب مؤكداً أيضاً على ذوبان الإنسان تحت ألسنة النيران المرعبة قضماً للذات المتورمة من البثور المتقيحة وحينها لا نستطيع ولا يستطيع القارئ تحرير العافية من الداء؛ لأن النار وصلت العظام فأصبحت حروقاً من الدرجة الألف شاهدة على فشلنا إنسانياً على ظهر هذا الكوكب من هذا المصير المؤلم وهذا الغباء السياسي الأخرق الذي حول إيمان البشر في القرن العشرين بخصوصية اللون الأبيض من الياسمين والنورس إلى خصوصيته بالكفن الأبيض على يد الغاشم الفاشي، ولا استثني أحداً «العسكرتاريا العربية والأجنبية» وأن كل الطرق لا تؤدي إلى روما في ذاكرته بل تؤدي إلى مقابر جماعية تفسر تهريب الرغيف والحليب والدواء جريمة إنسانية كبرى واحتيالاً على القانون في حق قضية الإنسان المنفي، وقد بالغوا للأسف في نفيه عندما جرى إعدام شهود قضيته كلهم وتهجير ذويه.. والله من وراء القصد.

(*) الإمارات العربية المتحدة

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved