Wednesday 26th march,2003 11136العدد الاربعاء 23 ,محرم 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

يارا يارا
عالم المخابرات
عبدالله بن بخيت

في حمى اعتقالات واسعة في بلدة صغيرة بعيدة عن الصراعات السياسية والحزبية، اختفى شاب في الثلاثين من عمره لم يحتج الناس إلى التخمين، فكل من يختفي في تلك البلاد هو رهن الاعتقال السياسي، في نفس الفترة لم يكن وحيداً فقد اختفى آلاف الرجال من كل الأعمار. ولكن أم الشاب لم تستسلم وإنما قررت البحث عن ابنها لعله الآن يرقد في مستشفى بسبب حادث سيارة أو سافر إلى مكان آخر دون أن يخبرهم.
كانت تسمعه يردد أنه سوف يذهب إلى العاصمة للبحث عن عمل أفضل، تمنت الأم انه ربما نفذ وعده، رغم أنه لا يوجد سبب واحد لكي يخفي رحيله عنها، ولكن الأم وضعت رجاءها في احتمال عقوق ابنها لكي تتجنب أي تفكير في أن يكون ابنها في المعتقل. وبعد عدة أسابيع لم تطق الأم عذاب غياب ابنها فرجت ابنها الثاني أن يذهب للعاصمة ويبحث عنه لعله عند خاله فلان أو صديقه القديم الذي ذهب إلى هناك ووفقه الله، أو أن الله فتح عليه واستقر في العاصمة في عمل لا يسمح له بالعودة لطمأنتها على سلامته. وقبل أن يذهب الابن الثاني أوصته أمه ألا يتأخر وأن يخبرها على الفور بأي معلومات. يكفيها عقوق أخيه ولوعتها عليه.
تعهد لها الابن الثاني أن يعود بعد أسبوع سواء عثر عليه أم لا حتى يطمئنها على سلامته، ففي عقد الثمانينات لم تكن الاتصالات سهلة في القرى، ذهب الأسبوع الأول وذهب الأسبوع الثاني ثم الثالث ثم مرت أكثر من أربعة أشهر على اختفاء الابن الثاني، فلم تعد تعرف الأم هل تبكي على الأول أم على الثاني، وفي أوج تخبطها قال الابن الثالث وهو صغير لا يتجاوز السابعة عشرة أنه سيذهب إلى العاصمة للبحث عن أخويه، وأمام شوقها ومصيبتها لم تعرف أي قرار تتخذ، فسمحت للثالث بالذهاب للعاصمة. وكما توقع الجميع اختفى مثل أخويه، كادت الأم أن تجن ورغم كل شيء فقد استيقظت على الحقيقة، عندما قال لها شقيقها: أنا سوف أذهب لأرى ما الذي حدث لأبنائك الثلاثة صرخت.. لا لا لا وقالت سيعيدهم الله لتقفل الباب أمام انهيارات عواطفها.
بعد سنتين تقريباً ماتت الأم تاركة أبناءها الثلاثة في عهدة المخابرات، بعد سبع سنوات عاد الابن الأول بعد أن أطلق سراحه، فعرف حقيقة ما جرى حيث شرح له الخال ما حل بالأم واختفاء أخويه الاثنين ولكنه أخذ يقول في كل مجلس يكون فيه إنسان غير نفسه: الحمد لله أن مثل هذا لا يحدث الا في بلد ثوري مثل العراق فقد تأكد لهم بعد التدقيق السريع (سبع سنوات فقط) أنه بريء. بدأ يتكيف مع الحياة الجديدة التي منحته إياها المخابرات، ولكن في بعض الأحيان القليلة تنتابه بعد الأفكار التي تذكره بأمه وبأخويه، فقرر في لحظة طيش ومن باب الأخوة ومن باب الشهامة وأبواب أخرى مشابهة أن يذهب إلى العاصمة للبحث عن أخويه فقال له الخال لا تعد دورة الأيام، أنا أعرف أنك تريد أن ترد الجميل، لكنك ستذهب إلى السجن.
لا يعرف أحد حتى الآن بعد مرور خمس عشرة سنة مصير الأخوين. لكن الفرق بين الأول وبين الأخوين التاليين واضح، فالأول اعتقل بشبهة وبعد تحريات وتحقيقات دامت سبع سنوات ثبت ألا علاقة له بالتهم الموجهة له، فأفرج عنه ضمن موجة الافراجات التي جاءت لإسكات حملات منظمات حقوق الإنسان الظالمة. أما الأخوان الآخران فقد اعتقلا بجريمة صريحة، وقد دوِّن اعترافهما دون أي أكراه. حيث أقرا (كل في محضر منفصل) أنهما جاءا إلى هنا للبحث عن أخيهما المعتقل، ومن المعروف أن المراجعة والبحث عن معتقل هي جريمة أشد من جريمة المعتقل نفسه مهما كانت، لأن فيها خيانة صريحة للوطن. لأنه غلب عاطفة الأخوة الزائفة على عاطفة الوطن المحبوب.
لم يعد أحد يسمع عنهما شيئاً. المشكلة ليست في الشابين المعتقلين ولكن في المفرج عنه، فقد بدأت أفكار الأخوة الطائشة تتكاثر وبدأ يحس أنه لم يعد يستطع العيش تحت وطأة الشعور بالذنب والعار، فأخواه مسجونان الآن بسببه وهو الآن خارج السجن. ولا يستطيع المراجعة فيهما لأنه سوف يودع في السجن وهذا ليس مهما أيضاً، المهم أنه إذا سجن ربما يفرج عنهما قبله وبالتالي سوف يشعران بنفس الذنب. دائرة من المشاعر الرهيبة. إذا ذهب وإذا لم يذهب.
بسبب تفاقم انتهاكات حقوق الإنسان في تلك الدولة الثورية وبسبب مواقفها من إسرائيل الديموقراطية وضعت حكومة الولايات المتحدة اسم هذه الدولة في أعلى لائحة الدول التي تنتهك حقوق الإنسان: متهمة إياها بتهم حقيقية وصريحة منها أنها تعتقل الناس دون أن توجه لهم أي تهمة، وتودعهم المعتقلات دون محاكمة وحتى دون السماح لمحامي المتهمين أو أقاربهم بزيارتهم.
الله اكبر: دار الزمان دورته فأصدرت منظمة حقوق الإنسان بياناً تندد فيه بالولايات المتحدة لاحتجازها معتقلين في جزيرة غونتانامو الكوبية دون تهم محددة ودون محاكمة ودون أن تسمح لمحاميهم أو أقاربهم بزيارتهم.
وفي حمى المنافسة على كمية البشاعة أعلنت الولايات المتحدة الحرب على العراق لتعزيز رصيدها في غونتانامو.

فاكس 4702164

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved