تعددت الرِّوايات حول هذا المثل العربي الشَّهير، واختلفت الأخبار التي نُقلت عن السبب في إِطلاقه حتى أصبح مثلاً يُضْرَب في كل زمانٍ حينما يحدث ما يستدعي ضربه.
يروي يونس بن حبيب عن أبي عمرو بن العَلاء قوله: إن بَرَاقِش امرأةٌ كانت لبعض الملوك، فسافر الملك واستخلفها في الناس، وكان لهم موضعٌ مرتفع إذا حدث فَزَعٌ أوقدوا فيه النار ليتعالى دخانُها نذيراً للناس، فإذا أبصره الجند اجتمعوا، فحدث ذاتَ يومٍ والملكُ غائبٌ أنَّ بعض جواري بَراقش أوقدن ناراً في ذلك الموضع ليجتمعن عليها، فرآها الناس، وأسرع الجند إلى الموقع، فلما اجتمعوا قال لها الناصحون: إنَّك إنْ ردَدْتهم لم يستجيبوا بعد ذلك لرؤيتهم الدخان ظناً منهم انَّ الحالة قد تكرَّرَتْ وفي ذلك ضرر، فسمعت براقش رأيَ الناصحين فأمرت الجنود ببناءِ حصنٍ دون دارها، وقالت: إنما جمعتكم لذلك، فلما عاد الملك ورأى البناء، سأل عنه فأخبروه بخبره فقال: على أهلها تَجني بَراقش، فصارت مثلاً.
وفي رواية أخرى يرويها الشرقي بن القطامِي تنقُل إلينا قصَّة المثل بطريقةٍ أخرى تقول: إنَّ براقش هي امرأة لقمان بن عاد، وكان لقمان من بني ضدّ، وكانوا لا يأكلون لحوم الإبل استكراها لها، وكان لقمان قد تزوَّج براقش وأصاب منها غُلاماً فنزل لقمان مع ابنه منها ومعها في بني ابيها، فأولموا ونحروا له الجزر أي «الإبل»، فراح ابن براقش إلى أبيه بعَرَقٍ من جزور «أي بقطعة لحم على عظم»، فأكله لقمان، فقال: يا بني ما هذا الذي أعطيتني فإني لم أَذُق أطيب منه، فقال الابن: جَزورٌ نحرها اخوالي لضيافتك، فقال لقمان: عجباً، وإنّ لحوم الإبل في الطيب كما أرى؟ وكانت براقش من أكثر قومها إبلاً، فأقبل لقمان على إبلها وإبل قومها ينحر ويأكل، وفعل ذلك قومُه حيث استحسنوا ما استحسن، وكانت براقش قد قالت لزوجها لقمان بن عاد لما أعجبه طعم لحم الإبل: جِّملْنا واجتمِلْ، أي أَطْعمنا، وأطعمْ نفسك، ورغَّبْته في لحم الجَزور، فلما رأى القوم إقبال لقمان على نحر الإبل قالوا: على أهلها تجني بَرَاقش، وأصبح هذا المثل الشهير يُضرب لمن يعمل عملاً يرجع ضرره عليه، أو لمن ينبِّه عدوَّاً على ما يُطْعِمُه فيه. وهناك رواية ثالثة سأضرب عنها صَفْحاً فلا أرويها هنا حتى لا يسوق الفهم الخاطئ لها إلى معنى لا أقصده.
هذه قصة هذا المثل، تذكرتُها وأنا أتأمَّل حال «بَراقش» في هذا العصر، بَراقش التي فتحت قلبها لعدوِّها، وشرحتْ صدرَها له، وأرشدتْه إلى كلِّ ما لديها من الخير، ودعتْه إلى ديارها، واستسلمتْ لوعوده «الخلاَّبة» حتى إذا ذاق طعم خيراتها، ورأى بأمِّ عينيه «الزَّرْقَاوين» ما لديها من كنوز الأرض، المتمثِّلة فيما أودع الله في ثراها من مصادر الثروة المتعددة، وعرف ما لديها من كنوز الفكر المتمثلة في مبادئها وقيمها، وفي طاقاتها البشرية الهائلة، وعقول أهلها المتفتحة، وذكائهم الفطري، وكرم نفوسهم، هنا طاب له المقام، وعَزَم على ألاَّ يترك «بَراقش» تستأثر بما لديها من الخير، ولسان حاله يقول: أنتِ التي أرشدتني إلى ما لديك، كما قال لقمان بن عاد لبَراقشه: أنتِ التي أطعَمْتِني مذاق لحم الإبل الجميل، فلا تلوميني إنْ أسرعتُ في إبلك نَحْراً وشَوْيَاً فلا صبر لي عن ذلك.
«براقشُنا» نسيَتْ وهي في غفلةِ انطلاقتها إلى «الحليفِ المخادع»، أنَّها تدلُّ الطَّامع على ما لديها، ومَنْ ذا يستطيع أن يحولَ بين طامعٍ متغطرسٍ مغرورٍ بقوَّته وبين تحقيق ما يصبو إليه.
نعم على أهلها تجني «براقش»، ولكنَّ براقشنا في هذا العصر تختلف عن براقش لقمان بن عاد، فتلك امرأةٌ دلَّتْ زَوجها، وهذه أُمَّةٌ دلَّتْ عدوَّها، فكان لزاماً على براقش هذا العصر أنْ تراجع نفسها، وان تدرك خطأها الذي جَلَبَ عليها الرُّعْبَ والقلق، وأن تتجاوز التَّباكي والتسويف إلى بَذْل الجهد، ببصيرةٍ ورُشْد، لتتخلَّص من ذلك «الحليف المخادع» الذي أغرته لذَّةُ المذاق، بأنْ يبدأ بالتهام قطعةِ لحمٍ اسمها «العراق».
إشارة
يدَّعي المدَّعون، والحقُّ شمسٌ تُلِجمُ المدَّعينَ بالإشراق
|
|