والذين يحيلون الخلاف فيما بيننا وبينهم إلى جدلية التجديد والتقليد، أو المعاصرة والمحافظة يفتقدون المصداقية، فنحن دعاة التجديد، وكيف يتأتى التجديد من مثلهم، وهم ينسفون الثوابت، ويقلدون الآخرين؟ والسمة ضابط ثبوتي لمسمى لها ما يحقق انضباطيتها، ولن تتحقق الهوية دون حد أدنى من السمات والشروط التي يحيل إليها المختصمون، وحين لا تكون سمة ولا شرطاً، فإلى أي شيء يكون الرد؟ وحين يصر المتحدثنون وأعني بهم المتذيلين لا المبدئيين المبادرين على دعواهم الكاذبة بقيامهما في القوليات، تختلط الأمور، ثم لا يكون درجات ولا دركات. وإذ يقولون بمطلق «الحق» و«الحرية» فمقتضى ذلك ألا يستقيما مع شرط سابق يخل بالمطلقية. وهذا الدرك الذي بلغوه في النثرية وللاأخلاقية ناتج طبعي لهذه الدعاوي، واقرؤوا إن شئتم «الخبز الحافي» لشكري و«الوليمة» لحيدر، وما أحدثته الأخيرة من تصدع مخيف في المشهد الفكري والأخلاقي، ومن الناس من يرى ان التصدي لمثلهما يفقد الحرية والحق. ومثلما تردى الشعريون في النثرية والسرديون في العبثية المضاعفة، وقعوا في الانقطاع بكل أنواعه: انقطاع المرجعية، وانقطاع التواصلية، ونشأ من جراء الانقطاعين خلل في اللغة، وخلل في القيم المعرفية والأخلاقية، فجاء التغامض المتكلف لا الغموض الطبيعي، وتسربت العامية الاقليمية، واستشرى الانحراف الفكري، وشاع الفحش القولي، واحتج كل قبيل بحق التعبير وحرية التفكير، وعولوا على ظواهر سلوكية، ركن إليها الغربيون، حيث اتخذوا «أدب الاعتراف» حجة ومحجة، وما عرفوا ان كل مقترف معافى إلا المجاهرون، وان المبتلى بالقاذورات من واجبه الاستتار. وإذا قيل لهم عن «الاستتار» و«العفو» قالوا: إنما نحن رواة أحداث، وحكاؤون لوقائع، وما فعلنا ذلك إلا لقصد الحبك الفني. وقد يكون لأكثرهم بعض المسوغ، متى عرفوا حدود الحق، ومقداره، ومجال الحرية ومداها، ومتى جاء بالجنح دون تفحش، ليصرعها الحق، وينقيها الطهر، وتنتصر عليها الفضيلة، وما قصة يوسف وامرأة العزيز إلا من هذا النوع المعول عليه، دون فهم للمقاصد وحدود التناول. ولقد ارتكس من ارتكس عن جهل أو عن بينة، وحل ما يسمى بالحرية الجنسية، وتهافتت على هذه المثيرات المغريات طائفة من المبدعين، نجد ذلك عند «غادة السمان» التي تربت في بيت علم وأدب وتصوف، ثم تمردت عليه، لقد قالت عن ردة فعلها على ما أسمته بالكبت وسلب الحرية: «فهذه التربية القاسية منعتني من لقاء شباب مراهق مثلي دفع بي ببساطة إلى استدعائه للبيت ليلاً بعد ان ينام الجميع دون ان يرف لي جفن ولكن المسكين كان يرتعد خوفاً وفقد كل حرارته فعفوت عنه وسمحت له بالهرب» هذا الاعتراف معدود من الحرية، والحق انه من العهر والتهتك، اللذين أفسدا الفن، وهدما الأخلاق، ومعهما لا يسع ناقداً ينتمي لحضارة تمثل الشرعة والمنهاج ان يغمض فيه، ولا ان ينخدع لمفهوم الحق والحرية على الطريقة الحداثية أو الوجودية.
ولما كانت الأعمال السردية داخلة في الاتصال اللغوي، فإن على المبدع والناقد ان ينظرا في ترسيمات الاتصال، كما هي عند مشاهير اللغويين المعاصرين.. ولنا ان نعوِّل على «ياكبسون» بوصفه الحكم العدل عند الحداثيين. فلقد حصر عناصر الاتصال في «المرسل، والمتلقي، والرسالة، والسياق، والشفرة، والصلة» وهذه العناصر الستة في المجال السردي تجعل «الرواية» و«القصة» أو «السيرة الذاتية» أو «أدب الرحلة» رسالة من سارد، يرسلها إلى مسرود له، يقرأ السرد أو يسمعه، و«شفرتها» اللغة التي لا تطاوع الطرفين، حتى يتقنا نظامها النحوي والصرفي، وحين يحسن المبدع استعمالها استعمالاً أدبياً يعتمد الانزياح والجرس والايقاع والايجاز والمجاز والايحاء والتمنع والاحتمال الدلالي، ولا يكتفي بالتوصيل المباشر دون أي محفزات، و«صلة» الرسالة الكلامية هي الرسم الإملائي، و«سياقها» الثقافة والأوضاع والأعراف المشتركة بين طرفي: الارسال والتلقي، ولأن لكل عنصر مكوناته، ولكل مكون سماته، فإن «الحق» و«الحرية» إزاء التصرف بالعنصر ومكوناته مقيدان بما يحقق ما هية العنصر، وليس لأحد ان يتصور العنصر دون ضابط، ولن تتأتى الحرية المطلقة مع الضابط، والسياق بوصفه الأهم ، يكون: عاماً أو خاصاً، خارجياً أو داخلياً، فالخارجي يرتبط بالمكونات، والداخلي يرتبط بالتكوين، وبمعنى أدق: الظروف التي ترسم النص، والنص الذي يرسم الأحوال، فالنص له راسم ومرسوم كما الدال والمدلول. وراسم النص ليس هو المبدع مفصولاً عن المكونات والمؤثرات.. ومصطلح «التناص» يؤكد انه ليس هناك نص بريء، وليس كل تأثير خفي من السرقة أو الاسترفاد المخل بالعملية الإبداعية، فالمبدع في النهاية وصي، جسَّد الأثر، وتجسُّدُ الأثر يضاعف السياق، بحيث يكون للنص مرجعيتان سياقيتان: سياق خارجي، يعني النسق الثقافي، وسياق داخلي، يعني النسق اللغوي، والمبدع والناقد حين يجهلان الانساق والسياقات، ولا يقيمان لهما وزنا، تضطرب عمليات الأداء والاتصال، وذلك ما نعايشه في مشاهدنا باسم «حرية القول» و«حق التعبير»، والمتمردون على الضوابط والأنظمة والقيم يصفون من يأطرون عليها بالأوصياء وبالسلطويين، ويفتعلون الأنفة ليحموا أنفسهم من مباضع النقد، الساعي لاحقاق الفن، بكل ما له من جلال وجمال.
ومثلما نازع الثوريون السلطة، نازع الحداثيون الضوابط والأنظمة والقيم والحضارات، ومن هذا التمرد غير الراشد وقعت الشعوب في حمامات الدم، ووقع الفن في وحل التسيب، فالذين اتخذوا العامية لغة للنص أخَلَّوا بعنصرين: عنصر اللغة، وعنصر السياق في جزئه الداخلي. والذين استمرءوا الفجور والتهتك والفحش دونما حياء أخلُّوا بعنصر السياق في جزئه الخارجي، ومثلهم الذين اتخذوا «الايديولوجيات» و«الأنساق الثقافية» المغايرة لأفكار حضارتهم وأنساقها، والذين رضوا بأن يطلقوا على ما يقولون سمة فنية ك«الرواية» أو «القصة» ولم يترددوا في مناقضة المقتضيات، كل أولئك خارجون عن مفاهيم «الحق» و«الحرية»، ولا يعد ما يأتون من باب التجديد، ولا يكون الاعتراض عليهم والأخذ على أيديهم وثنيهم عن غوايتهم من باب الوصاية والمزايدة.
وكيف يكون شيء من ذلك والناس كافة تمارس أداءها وفق عقد اجتماعي ملزم سواء كتب أو عرف؟ ومن لا يختار الالتزام بمحققات حضارته التي يدين بها ويدين له، وجب الزامه، فمن رضي بها لزمه تمثلها، والتخلي عن مقتضيات العقد فوضى، ترجع بالأمة إلى الخلف، ولأن النص الإبداعي لغة فإن المبدع لا يكون متألقاً ما لم يمتلك ناصية اللغة، وما لم تكن اللغة معه طائعة انسيابية، يشكلها كما يشكل الرسام صوره بالألوان، وكما يشكل النحات أشكاله بالأدوات، وكما يصوغ الموسيقي ألحانه بالأنامل والآلات فإنه يعيق الحركة الإبداعية، ويشكل عبئاً ثقيلاً وعقبة معوقة، والسرد كالشعر صعب وطويل سلمه، ومن استخف به فإنما يستخف بنفسه، ولسنا فيما نتطلع إليه معارضين ولا معترضين على التجديد، ولا على التفاعل والتبادل مع الآخر، ولكن البون شاسع بين ما نقول وما يفعله المتهافتون على منجز الآخر.
ومع ان أماني المفكرين في حضارة عالمية تتفادى الصدام أماني رومانسية، وليست واقعية، وما يفعله البعض لا يعد من التقارب وإنما هو انسلاخ وانمساخ وتمييع لكل ضابط وَحَدٌّ، والذين يعطون التنازلات يلغون حضارتهم، ويؤصلون لحضارة الغير، وقد تكون المدنية الغربية قد فعلت فعلها بالترويض للهيمنة الحضارية، وإذ تكون اللغة وعاء الحضارة ومنطلقها، فقد قرضت من كل جانب، وإذا لم يستطع المتأمركون والمتفرنسون إحلال لغة حضارة أخرى مكانها فلا أقل من ان تنازعها العامية لتدخل الأمة مرحلة الازدواجية، وما العامية إلا أولى خطوات الانقطاع الفكري مع التراث، وأهم مرتكزات «الرسالة» اللغة، فهي الوسيلة الأهم، والرسالة بوصفها عملاً سردياً تحيل إلى وسيلة الأداء، وكل وسيلة لها توصيفها ونظامها، والرسالة قبل ان تتلبس بوسيلة الأداء تمتلك توصيفها ونظامها، وهنا فنحن أمام مواصفات: «الرسالة» و«الوسيلة» وليس لكائن من كان ان يعول على «الحق المطلق» أو «الحرية المطلقة» ليحمل الرسالة أو الوسيلة على مناقشة السمة المميزة لها، وهل أحد يقبل الحاق عالم الحيوان بعالم الإنسان، أو ان يخلط العذب الفرات بالملح الأجاج؟ وهل أحد يستطيع ان يحلّ حرفاً مكان حرف في المعنى الوضعي أو في الدلالة الصوتية؟ والمجازيون أقاموا علاقة عند مصائرهم الاستعارية أو التشبيهية أو المجازية المرسلة، ولا يمكن ان تكون الاستعارة أو التشبيه اعتباطيين، ولو أن أحداً من المبدعين لم يضع أي قيمة للعلاقة أو لوجه الشبه كان قولاً هذراً لا قيمة له، مع انه مارس في هذه الاعتباطية حرية القول وحق التعبير المطلقين، وفي ظل هذه التحفظات التي قد تحيل إلى الوضوح والمباشرة، أو قد يفهمها البعض فهماً آخر، فإننا نعرف «الرمز» و«الاسطورة» وحدود «التجلي» و«الخفاء» المشروعين، وليس هناك مبدع حقيقي، ولا إبداع حقيقي بتلك الصفة إلا وهو على شيء من الانزياح اللغوي الذي ينقل اللغة من الاستعمال العادي إلى الاستعمال المتميز، بكل ما يتطلبه النص من جمال وجلال، وفي الذكر الحكيم جاء الاستهلال بالحروف المقطعة، ثم أشار بعدها إلى «الكتاب» فكأن في ذلك على رأي بعض المفسرين إشارة تحدٍّ وتنبيه إلى ان مادة القرآن من تلك الحروف، التي يستعملها الناس في أحاديثهم العادية، ولكن النظم شيء آخر يختلف عن استعمال البشر، فاللغة هي اللغة، ولكن النظم يختلف، وهكذا يجب ان يكون الإبداع البشري، استعمال اللغة، ولكن بطرائق لا يبلغها إلا المبدعون، ولما كانت السرديات بوصفها رسالة صامتة تحمل شكلها وشفراتها إلى من تفترض فيه القدرة على فهم المعنى المقصود بفك الشفرة، كان على المبدع مراعاة أمرين:
الأول: ألا تناقض الشفرة دلالتها المصطلح عليها.
الثاني: ألا تناقش الرسالة شكلها المعتبر والمميز لها، والتشفير حين يناقض المعهود بين طرفي الرسالة: المرسل والمتلقي، تفقد الرسالة مهمتها الرئيسية، ولا تكون شيئاً ذا قيمة، بمعنى انها تفقد القيمتين: الشكلية والدلالية، وكل ما نسوق من تحفظات واحتراسات تحفظات لا تمنع التجديد ولا التعصرن، ولكنها تحفظات واحتراسات تمكن من اكتشاف الفرق: بين التجديد والتخريب، والحرية والفوضوية، والحق والتسلط، وتكشف عن ذوي المواهب والتجارب والثقافات، ومن يندس معهم من الأدعياء والمتقولين على الفن والمواطئين لهم، والاحالة إلى حرية القول وحق التعبير بلغ بالإبداع حد الانفلات والطلسمة، بحيث لا يعرف الغادي الذي هو رائح، والذين اهتاجوا مما نقول، يحسبون كل صيحة عليهم، والمتعقب للغطهم، يدرك ما يعانونه من ريبة في صدورهم.
ومثلما أوغل البعض في الانقطاع السياقي مما انطمست معه معالم الفن، أوغلت طائفة من الحداثيين في الانقطاع اللغوي، واتخذوا الانغلاق والإحالة سمة مميزة، وساقوا تراكيب وعبارات ليست مفهومة، وليست مقبولة، وتلاحقُ هذه التراكيب والعبارات واغراقها في المغايرة ينسف جسور التواصل، ولقد خلفت «السريالية» و«الوجودية» عبثية وغثائية أوغل فيها الحداثيون، فكانوا إلى العبثية أقرب منهم إلى الانضباطية، والعبث بالقيم الفنية لا يكون تجديداً، والعبث بالقيم الأخلاقية لا يكون من الحضارة ولا من التمدن، و«الحق» لا يغمطه الأطر على الجادة، بل لا يتحقق إلا بالأطر، ومن تصور الأشياء على غير مفاهيمها، واحتج بحرية التعبير وحرية التفكير وقع في الشبُهات، والنقاد كالقضاة في فض المنازعات وكالرواد في البحث عن الطريق القاصد والمرتع والمخصب الآمن، فإذا جار القاضي، وكذب الرائد، حلت الفوضى، واستفحلت الغثائيات، وذلك ما نشاهده ونعايشه، ومجمل القول ان السرديات كلام من الكلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح، ولأنه صنو الشعر وشقه فإن مبدعها كمبدع الشعر، يحتاج ما يحتاجه الشعر من موهبة تولد مع الشاعر، ومن دربة تواكب حياته، ومن ثقافة تنمو بنمو مداركه وحاجاته، ومن موقف مثير، وناقد خبير متيقظ، يسدد ذويه، ويحمي ساقه الفن ومقدمته من ان يلحق به من ليس من أهله، والمتضاوون من قولنا، يخشون كشف عوارهم.
ثم إن السرديات رسالة مقروءة، وحين تكون كذلك، فإنه يجب ان تستكمل شروط المكونات والوسائل، ولما كان القارئ يريد من قراءته إثراء معارفه، وتوسيع ثقافته، وتهذيب اخلاقه ولسانه، وامتاع نفسه، كان على السارد ان يتوفر على ذلك، ففاقد الشيء لا يعطيه، وعلى القارئ ألا يفرط بجهده وماله ووقته في قراءة لا تزيده إلا جهلاً، وعلى الناقد الحكيم ان يكون أميناً صادقاً في نهوضه بدور الوسيط والمقوم والشارح والمتذوق والمنقب عن المضمرات، ولن تبلغ السرديات تمامها حتى يكون الثلاثة: المبدع، والمتلقي، والوسيط، على وعي تام بما يجب ان يكون، ومن قعدت به موهبته أو ثقافته أو موقفه ان يعرف قدر نفسه، وألا يقتحم مدارج الفن ليعيق الباحثين عن القيم الفنية والمعرفية والأخلاقية واللغوية، والذين يبطئ بهم تفريطهم باللغة الفصيحة والفن الرفيع والخلق الحسن لا يسرع بهم افراطهم بالتمسك الحرفي بكل ما سبق، ولن تؤتى مملكة الفن الرفيع إلا بالمفاهيم الخاطئة والتعويل على الفوضوية باسم الحرية والتقليد للغرب باسم التجديد والمجاهرة بالرذائل باسم أدب الاعتراف والوقوع في العامية باسم الواقعية اللغوية، ولتحقيق الإبداع الرفيع المثري للمعارف، المهذب للأخلاق، والمقيم للسان، لابد من تمرير المسائل، وتحديد المفاهيم، وحفظ التوازن، والصدع بالحق، والاعراض عن المجاملات والمداهنات، والمرور الكريم باللغو، وذلك ما نود ان نأخذ به أنفسنا ما استطعنا إليه سبيلاً.
|