في زمن الطفو الإعلامي السائد، انحسرت القصائد المدهشة، التي تشكِّل مساحات ضوئية مبهجة على خارطة مشهد الشعر الشعبي المعاصر، فلم نعد نرى ما يجعلنا قادرين على الإفلات من ذواتنا، وتحرير أرواحنا المكبلة بسلاسل المادة لتحلِّق في عوالم التجلي مستعيدة بناءها الجمالي الذي تهدم تحت تسارع عجلة الحياة.
يحاصرك تجهم الحياة المادية فتسرق ذاتك من ذاتك، لتمارس محاولة تجريب منح فؤادك المثقل بأوجاع الزمن. مساحة محدودة من الغناء الشجي في ملكوت نص شعري، كتب بلغة حديث القلوب الشافة. حتى تعيد إلى ذاتك اتزانها وتناغمها. مع واقع حياة صاخبة زجت بك المتغيرات المتسارعة إلى أتونها بلا مقدمات. تمكنك من محاولة فهم فلسفة التعايش معها بسلام.
تدخل مخزن المنجز الشعري للعشر السنوات التي غادر محطاتها قطار الزمن.. بحثاً عن النص المنشود.. تتحسس في يديك المرتجفتين أهرامات من الأوراق (صحف، مجلات، دواوين) مكدسة تحت الظلام في ذلك المخزن المعتم، تجد أن هذه الأوراق التي تركها من مروا في معبر الشعر قد تحللت وتحولت، إلى مسحوق يشبه خليط الطين والرماد.. تتراجع إلى الخلف بحثاً عن أوراق خزنت حديثاً.. ترفع أكثر من ورقة فتجد أن كيمياء الشعر الرديء قد عبثت بخاصية الحبر، فاختفت معالم النص الذي دون ذات غفلة ولم يتبق منه سوى رسم باهت لعظام جمجمة بقيت من صورة الشاعر التي كانت تطل ببلاهة على النص من أعلى.
تدقق في ملامح الجمجمة فتجد الفكين متباعدين فتكتشف أن كاتب النص كان يبتسم للكاميرا أثناء التصوير..!! تتأمل ملامح الجمجمة فيدهشك، تطابق ملامحها مع جمجمة إنسان العصر الحجري وإن كان وعاء الدماغ في الجمجمة أكبر قليلاً..!!
تصاب بالذعر من ملامح الموت.. تتراجع بخطوات مرتبكة للخلف بحثاً عن شعر مؤرشف في زمن أحدث.. بالقرب من مدخل مخزن المنجز الشعري تجد أن عامل الزمن لم يبعث بالأوراق بعد.. ترفع ورقة شعرية فتجدها مثقلة بنص شعري متشنج العبارة.. بليد العاطفة.. باهت الصورة.. تصاب بالغثيان، فتنفض يدك لتسقط الورقة تحت قدميك.. تكرر المحاولة أكثر من مرة فتصل إلى النتيجة ذاتها مع اختلاف اسم الشاعر واسم المطبوعة.. تصاب بخيبة أمل مرة.. تجرجر خطاك إلى اهرامات الدواوين المطبوعة فتجد أن آفة الأرض قد استمتعت بنوعية الورق الفاخر الذي استخدم في طباعة الدواوين.. يحاصرك الإحباط.. تتجه إلى أكوام أشرطة الدواوين الصوتية.. ترفع الأول فيسيل من بين فتحاته قطران أسود، يترك أثر إثم المحاولة على أصابعك.. ترفع الثاني فينساب منه وحل يلوث ملابسك.. فيعصف بك الندم.
يحيط بك الأسى وأنت تشاهد آمالك بالغناء الآسر تحتضر في مخزن المنجز الشعري، تقفل راجعاً وبعد أن تعبر بوابة الخروج تفاجأ بجمهرة من شعراء زمانك المعاصر وقد تحلقوا حولك، وتعالى صراخهم، وتداخلت أصواتهم حتى أصبحت عاصفة هوجاء من الصخب..
تمهل سيدي.. لا تكن بريئاً وتعتقد أنهم يحتجون على تهدم الشعر، بل كل هذا التظاهر المفعم بالتشنج مرده أن كل واحد منهم يريد أن يقرأ عليك قصيدته البائسة، والتي صور له غروره أنها النص الذي سيحرر روحك المتعبة من تسارع الحياة، ويبلسم جراح قلبك المنهك..!!
ستسأل يا سيدي كيف تستطيع الإفلات من لجاجتهم وقلة حيائهم وضعف إدراكهم وهزال شعرهم.. أقول لك ليكن نبي الله (أيوب) قدوتك، فلا تحاول محاورتهم بالتي هي أحسن حول وهن ما ستسمع.. ستقف يا سيدي الكريم على أكوام آمالك المنهارة وستستمع لهذيانهم إن بتسامحك وصبرك مع نكبات فكرهم وإن بقانون (المشعاب) الذي يتعاملون به مع المتلقي من أوصلنا إلى هذا الدرك الأسفل من الشعر..!!
أين طريق الخلاص من هذا الوباء المتطاول؟
في الأسبوع القادم سأتحدث عن (المآزق والخلاص) إن كان في العمر بقية.
فرحان عبدالله الفرحان
|