السياسة فن التعامل مع الواقع، والتآمر فن الهروب منه.. يمكن الهروب من الواقع وتزييفه مؤقتاً.. إنما حسن الأداء السياسي يواجه الواقع ويحسنه.. ولكن كثيراً من مثقفينا رفع الخطابة عالماً فوق عالم الوقائع مازجين بين الوسائل والغايات والأوهام والحقائق، مفرزين أسئلة وإجابات لا تعبر غالباً عن واقع الحال.. ومن ذلك نظرية المؤامرة.. وتزخر الأدبيات السياسية العربية على اختلافها بفكرة المؤامرة، بزعم أن ما يحدث للأمة من مصائب، إنما هي مكائد حيكت من تآمر الغرب، وكأن مجتمعاتنا بمنظماتها وفعالياتها هي مجرد فراغ يعبئه المتآمرون.
ومن فكرة المؤامرة، تُرى الأمم المتحدة كخدعة غربية، ومجلس الأمن مكيدة إمبريالية، ومنظمة العفو الدولية مجرد نكتة سمجة.. والسياسة الدولية كلها مؤامرة قوى عظمى ومصالح مجردة تعتمد مبدأ القوة فقط. حسناً، ماذا سيقول أصحاب نظرية المؤامرة عن اختلاف الغرب في الحرب على العراق؟ أين تآمر الغرب علينا؟ قد يصرُّ بعض المسكونين بهاجس المؤامرة بأن ذلك فخٌ وتبادل أدوار أو هي استثناء!! وإذا بحثنا عن إجابة للخلاف الغربي بهذا الشأن سنجد أن مقولة «نهاية الغرب» أو نهاية التحالف بين أوربا وأمريكا، بزغت في الأدبيات السياسية الغربية الرصينة في السنوات الأخيرة، فيما أصحاب نظرية المؤامرة نائمون ملء جفونهم على وسادة الكسل الكسول متدثرين والبلاغة الوثيرة.
فمن الجانب الأوربي يمكن تلخيص أفكار أحد مروجي نهاية الغرب «تشارلز كوبشان» الذي يرى أن صراع الحضارات سيكون بين أوربا وأمريكا عبر التنافس التجاري، حيث النتاج الاقتصادي السنوي لدول الاتحاد الأوروبي يصل لحوالي 8 ترليونات دولار مقابل 10 ترليونات لأمريكا. كما ساعد على التنافر بين الطرفين سياسات الإدارة الأمريكية الانفرادية وانسحابها من كثير من البروتوكولات الدولية. ومما زاد في تعميق الهوة، هو ما تبع أحداث 11 سبتمبر، حيث نظرت لها أوربا من خلال مراجعة مسألة التنوع الحضاري، فيما رأت بها أمريكا أحادية «من ليس معنا فهو ضدنا». وفي المجال العسكري فإن لأوربا أولويتها في أمنها الخاص، فيما أمريكا تتدخل في دول العالم. وفي السياسة الدولية، أوربا تعترض على الدعم غير المحدود لإسرائيل، والإصرار على عزل أوربا عن المشاركة في الحل، وعلى طريقة تعامل أمريكا مع إيران والعراق.
ومن وجهة النظر الأمريكية، يذكر جون بوثين أن أوربا تتوهم في عالم يسوده القانون الدولي بعد الحرب الباردة، بينما أمريكا - حسب روبرت كاجان - تمارس أسلوب السياسة التقليدية حيث القوة عنصر ضروري في التعامل مع جهات معادية. الأوربيون محقون جزئياً، حسب كاجان، لأن السيادة القومية حل محلها التعدد الدولي، ولكن، ذلك لم يكن ليحدث لولا القوات الأمريكية. فالأوربيون يطرحون القانون الدولي بأهدافه الاجتماعية، ولكن بدون قوة فإن هذا القانون يتضعضع، حسب رأي الأمريكان. ورغم أن الأساس الحضاري المشترك وهو الديموقراطية اللبرالية، إلا أن هناك خلافاً في مصدرها القانوني. لدى الأمريكان لا شرعية تعلو على ديموقراطية الأمة - الولاية، بينما الأوربيون يؤمنون بشرعية أخلاقية ديموقراطية منبثقة من إرادة المجتمع الدولي. هناك أيضا خلافات اجتماعية ثقافية حادةمثل قوانين الهجرة، وحمل السلاح، وعقوبة الإعدام.
من كل ذلك يمكن أن أستخلص نتيجتين أساسيتين؛ الأولى أن هناك اختلافاً حقيقياً في المصالح بين الغربيين؛ والثانية أن اختلاف المصالح مسألة معقدة، صحيح أن أساسها اقتصادي ولكن يتداخل ويتفاعل معها كل مشارب الحضارة من قانوني واجتماعي وديني وعسكري وجغرافي.. إلخ. وفكرة المؤامرة التبسيطية، رغم أنها قد تحصل، ليست محركاً أساسياً في العلاقات الدولية، فالمؤامرة تتم بين أفراد في الخفاء لتدبير منافع تخصهم، بينما الاختلاف بين الأمم أساسه المصالح وتشعباتها المعقدة، تتم بين حكومات تمثل بشكل أو بآخر مصالح هذه الشعوب يصعب أن تتم طويلاً بالخفاء.. كما أن المؤامرة قد تجدي على المدى القصير لتحقيق منافع آنية، بينما المصالح المتشابكة تبقى على المدى المتوسط وربما البعيد، ومن ثم فمصالح الدول لا تركن للتآمر قصير الأجل.
غاية القول، هناك منظمات دولية وقوانينها ينبغي التعامل معها بجدية وليس بحس تآمري إنكاري، صحيح أن القانون الدولي ليس مطبَّقاً في كل الحالات، وينبغي الاعتراض على ذلك، ولكنه مثل أي قانون يتعرض لتجاوزات.. إنها لعبة الحياة برمتها وليست السياسة فقط. فإذا أخذنا مثلاً في مجتمعاتنا العربية، كانتشار ظاهرة الواسطة والمحسوبية وتجاوزات أصحاب النفوذ، لا يعني أن الفرد فيها لا يستطيع الذهاب للشرطة أو القضاء إذا أُعتدي على حقه فهناك تشريعات وأنظمة ينبغي التعامل معها رغم نواقص تطبيقها.
نعم، هناك حرب ظالمة على العراق.. فهل هي مؤامرة؟ العلاقات الدولية تعتمد على المصالح، إلا أن هذه المصالح تحتاج لقوانين ومبادئ لحماية الأمم من الانجراف إلى حروب طاحنة كلما ظهرت أزمة.. هذه القوانين ليست مؤامرة بقدر ما هي حاجة واقعية تحتاج منا حسن استخدامها. اليابان وألمانيا لم تتباكيا على تآمر العالم عليهما نتيجة الهزيمة والتدمير عقب الحرب العالمية الثانية، إنما حذقتا في الأداء الحضاري مبتعدتين عن خطابة المجد التاريخي والعاطفة السياسية الهوجاء والتهور العسكري وكوارثه.. وأصبحتا في غضون سنوات، أمتين في الصف الأول بين الأمم.. أليست هذه هي السياسة؟؟
|