* جدة خالد الفاضلي:
احتفظت جدة بتفاصيل حياتها اليومية الهادئة صباح أمس الخميس رغم سهر عيون 90% من سكانها أمام شاشات تلفزيونات عربية وعالمية تنقل تفاصيل هجوم أمريكي بالصواريخ على بغداد عند ساعات الفجر.
واستقبل كورنيش جدة مع شروق الشمس زوار الصبح «أفراداً وأزواجاً» ولم تتغير ملامح حديثهم بأكثر من تكرار جملة «الله يستر» ويقصدون بها دعاء من أجل حماية أطفال العراق ونسائه والمدنيون من شظايا قنابل وصواريخ لا تفرق بين البدلة العسكرية والحلة المدنية، بينما لا يزال «حسنتيت» البنقلاديشي يسكب «البليلة» في علب بلاستيك صغيرة وهو يتمتم «هزا حرام»، ثم يضع بقية البهارات على سطح الحمص المطبوخ ويمد ب «البليلة» مع ابتسامة وجلة ترافقها هزة رأس واستفسار «صديق أنت ما فيه خوف؟».
يمضغ زوار الكورنيش وزائراته حبيبات «البليلة» ويحركون محتويات العلبة بملعقة من البلاستيك متناسين «من أعماق قلوبهم» ما حدث ليلة البارحة في مدينة الخطوط السعودية «يوم الأربعاء ليلة الخميس» عندما نعق بلاغ كاذب بأحاديث عن وجود متفجرات في مبنى الإدارة العامة، وكذلك «إشاعات كاذبة» فسرت انقطاع الكهرباء عن بعض أحياء جدة عدة دقائق على أنه «انفجار» في مكان ما.
شهدت ثواني ساعات الفجر الأولى أن كورنيش جدة استقبل زواراً يؤمنون أن أرواحهم وممتلكاتهم وحياة كل إنسان على التراب السعودي ينال رعاية وحماية حكومة حكيمة لديها من التاريخ والحنكة قدر يكفي لإبحار «السفينة» بسلام في بحر من الألغام، وقادر في ذات الوقت على منح تأثير الحروب المجاورة على أمن «الداخل» من مساس أغبياء يتوهمون أن في زمن الحروب مساحات لممارسة حماقاتهم، أو تجار حرب يعتقدون أن امتصاص مدخرات المواطن والمقيم متاح عن طريق التلاعب في توفير وتسعير مواد غذائية ومستلزمات ضرورية للحياة اليومية.
وفي السياق ذاته، شهدت شوارع جدة طيلة يوم أمس «الخميس» أن صفارات الإنذار في بغداد لن تمنع حسين بن علي «سعودي يمتلك زاوية صغيرة في سوق الخضار الحلقة» من الصياح بأعلى صوته كعادته منذ سنتين «المجنونة، المجنونة، للبيع» يقصد عشرات من صناديق الطماطم المتكدسة أمامه، في حين لا يزال «حمد» مندوب البلدية يقلب شفتيه لأن الحلقة عادت من جديد تخضع لسيطرة شباب ذوي بنية نحيلة منحوتة من تضاريس جبال الهند وسواحل بنقلادش.
يغيب حسين عن متجره قبل العاشرة صباحاً، بينما يتصاعد صوت فهد بن صالح البلوي «طالب في كلية التقنية» منادياً على نادل المعسل في مقهى النخيل «العم سالم» أن يترك البحلقة في شاشة التلفزيون ويأتي بحبيبات جمر «ولعة» قبل أن يخرب مزاج عادته الأسبوعية في شهيق أحشاء «أرجيلة قصيرة» تحتضن همومه كل صباح خميس. يضع سالم «الولعة» ويدس معها في إذن فهد «ياااااا خي صبحوهم»، يرد فهد «عم سالم تفرج وأنت ساكت، يسكت سالم ويذهب، بينما يحدق فهد في جهاز «جواله» و«يرد» هلا حبيب قلبي، أسمع جيب معك محمد وتعالوا أنا عند العم سالم في المقهى.
من شارع ثان، تحديداً «التحلية» يتلذذ باحتواء مقاهيه ومطاعمه لمواطنين ومقيمين يأكلون ويشربون ويعملون بعيون قريرة آمنة على أنفسها، ويتحركون بين سماء وأرض لم تتغير ملامحها منذ أيام، حتى «هادي بن علي» لا يزال يجلس كما هو «هادي» خلف جرة فول تنتصب منذ بعيد الفجر في صدر مطعم «الثمرات» ويوزع محتوياتها على صالة مكتظة بشباب يعشقون «صباحات الفول»، وصالة ثانية مخصصة لعائلات تمارس طقوس «المودة والألفة» حول إفطار الفول وأرغفة «التميس» وأحاديث تشبه أحاديثهم في الأسبوع الماضي عدا دعاء صادق دافئ يتحدر من القلوب «اللهم أحم أطفال العراق من مصائب الحرب»، في حين لا تزال مطاعم الوجبات السريعة تحتفظ بذات المعدل من زوارها المغرمين بالتهام «المكاك»، و«الهارديز»، لكنهم أقل بكثير من مجانين «البيك والطازج». وكذلك يحتفظ «التحلية» بملامح أطفال وكبار يبيعون مستلزمات و«خفائف» على المارة، بالإضافة لوجود شباب متحدرين من افريقيا وجبال القوقاز يحاصرون السيارات ب «سطول ماء» و«قطع قماش» و«هاتك غسيل ودعك».
تنتصب مستشفيات جدة كعادتها، لكن دهاليزها تقول انها تعمل هذا الخميس بطاقم أكثر، ربما يأتي ذلك نتيجة تطبيق خطط طوارئ أعلنتها وزارة الصحة خلال الأسبوع الماضي، وكذلك تشرع الصيدليات أبوابها، في حين لا تزال الطرق الرئيسة والدوارات تشهد «ذات الدرجة» من وجود رجال الأمن وتنظيم المرور، فكبري تقاطع التحلية مع شارع المدينة لا يزال يرتفع فوق يمنح الظل «لوكيل رقيب من المرور» يتحرك بنشاط يومياً، ويحمل دفتر «مخالفات» وقلم دون غطاء، ويغير مكان وقوفه حسبما يشاء «الظل».
يأتي مساء كورنيش جدة كعادته، يستبدل نور الشمس بأطفال ورجال وسيدات يتهافتون نحو الكورنيش كما يفعل الفراش مع النور، لم يختلف المكان والزمان إلا باستبدال محتويات إذاعات ال «أف أم» بأصوات الحرب والبحث عن آخر أحداث الحرب البعيدة. تتوزع العائلات بين الجلوس مجاناً على الأرصفة المتاحة، أو الولوج إلى مقاهٍ ومطاعم تتفاوت بخدماتها وأسعارها، لكنها جميعها تتفق على أن «الديار أمان» وأن قيادة البلاد تصنع من نفسها درعاً لحماية العباد.
|