مقدرات الكاتب المفكر أن يشعر بما حوله، ألاّ يكون بعيداً عن بؤرة النّبض في صدر الحياة، وليس فقط في صدور من حوله... لذلك هو مثل الرُّبَّان، يوجِّه سفينته حيث تتَّجه الريح، وبقدر ما يكافح الرُّبَّان أمواج البحر، حتى تستقر... بمثل ما يكافح صاحب الرأي كي تكون الحياةُ صناعةً جميلةً لأفكاره، تنبسط كالحلم لهم، وتمتد كالعريشة، تُسقط لهم، وهم تحت ظلالها بأطيب الثَّمر...
لكن عندما تكون الريِّح عاتية، قويَّة، ساحقة، مدمِّرة، لاتقوى عليها السفن، ولا تطيع مقاودها أيدي الرُّبان...، فما حيلة المضطَّر غير ركوب الصِّعاب، أو الوقوف للتَّفكُّر؟!... تلك هي لحظة الاختناق، ومَعْبر عنق الزجاجة...،
بمثل هذه الصورة يكون موقف كلِّ كاتب، ومفكر، وصاحب قلم، في محيط العالم العربي والمسلم... والحرب الشرسة، كالطُّوفان تنقضُّ بعنفها، وجبروتها، ولهيب نارها، وأتون شررها، وقسوة هتكها على ليل، بهيمٍ، حَذرٍ، مترقِّبٍ، وجلٍ، تندسُّ فيه الأجساد في غلالات الأمل في الحياة، أو التخيُّل في الموت...
ترقُّبٌ مخيفٌ، ومفزعٌ لما وصلت إليه قوَّة الإنسان، في منتهى عدم الإحساس بالمسؤولية، وفي أقصى حالات الانفلات لكوابح الذَّات، ورغبات التسيُّد...
ومع كلّ الذي هزَّ، وزلزل، ونزع الثقة في الأمان، وسعادة الحياة بيقظة ضمير، حتى لو جاءت في آخر لحظات ظلام الحقيقة فيه، لا يزال من يصرِّح بأنَّ هذا الذي اندلع ما هو إلاَّ تمهيد أو بدايات، الله تعالى وحده يعلم كيف سيكون ما سيأتي.
وليل الكتّاب طويلٌ، دامس، في بحر غسقي، واقب...، لن يكون لهم بصيص أمل في التقاطِ شحنةِ نور، كي يأتوا للبشرية بأحلام الحياة...، وفضيلة المسؤولية فيها...، وسماء بغداد...، وبشرها فوق الأرض، ترتعد قلوبهم، وتتوجَّس خوف اللَّحظات...، وقدوم الموت براءةً... واستشهاداً.
|