الممارسات والتطبيقات
تأتي أهمية النظام الديمقراطي من هذه القدرة التي تميزه في تمثيل مصالح الأغلبية، حيث توسيع مجال فعل الإرادة الذاتية والقدرة على تنشيط مجال التفعيل الواسع للمجتمع. ومهما قيل عن الإمكانات التي يتيحها هذا النظام والسعة العالية في مجال التعبير عن الذات،إلاّ أن التداعيات التي يفرضها واقع التداول،لا يلبث عن إبراز العديد من مواطن التهديد لهذا النظام. فالأمر لا يقوم بشكل دائم على هذا الأداء النموذجي الذي لا يقبل التداعي أو ظهور بعض الأعراض السلبية، المتعلقة بتوجهات السلطة المباشرة من إمعان في ممارسة العنف والقوة، أو تكثيف حدود السرية داخل نطاق الفعل السياسي.
النموذج الذي تقدمه الديمقراطية يجعل منها في الكثير من الأحيان،خاضعة لطريقة التطبيق،أكثر من خضوعها للمضمون والمحتوى الأصل القائم فيها.إذ كثيرا ما تعمد بعض الأنظمة التسلطية، إلى انتهاك هذا المجال تحت غطاء من الشرعية توفره لها،هذه المفردة شديدة الجاذبية والتأثير في الجماهير، حتى ليكون الواقع وقد أشار إلى حالات الانحراف والتزوير في الانتخابات.
التطورات التي شهدها العالم جعل من الديمقراطية،في أشد حالات عنفوانها وتأثيراتها،لا سيما في مجال المجتمعات الصناعية، التي وجدت في هذا النظام تلاقيا للطموحات والأهداف الكامنة فيه، وما تقدمه من مضامين ودلالات في صلب العلاقات المجتمعية فيما كان لدور النقابات الدور الواضح في التأصيل لهذا الاتجاه، الذي وجد الاستناد إلى مجال المكاشفة والشفافية وطرح جميع الأفكار من دون تردد، حيث الكفالة تقوم على حرية التعبير ذات المضمون الاجتماعي والثقافي.على الرغم من كل الثناء والمديح الذي تناله الديمقراطية، بوصفها نظاما قائما على التوزيع المتكافئ لممارسة الرأي وليس مجال الفعل الاقتصادي إلاّ أن اللافت في الامر يكمن في هذا التوقف في المضامين التي تميزها، حتى انها لم تعد تختلف عن أي نظام تداولي آخر على الرغم من الانتصار الذي تحقق لها على حساب النموذج المقابل لها فالانتصار لا يمثل دائما دليلا على القوة فيما يكون لغياب التحديات دوره في تحديد مجال المبادرة في النظام ذاته.
البحث عن سلطات
يكشف مجال التجربة الديمقراطية في بلدان الاستتباع والتقليد،عن وعي شديد السلبية قوامه الاستناد إلى المظهر الشكلي، الذي يتوقف عند البرلمان الذي لا يتجاوز وجوده عن هذه الصورة الباهتة لفعاليات، لا تتجاوز في أحسن الأحوال الأداء المسرحي الهزيل غير المقنع حتى ليكون التزوير في الانتخابات الجهد الأصل الذي تعمد إليه الأنظمة التسلطية في سبيل الحصول على شكل يضمن لها الإبقاء على المصالح. وبقدر ما تفصح هذه الممارسات عن الغياب الفاضح للممارسة الأصيلة والعادلة، إلاّ أن الواقع يكشف عن استمرار الكثير من الأنظمة، التي لا تتورع من الوقوع في مثل هذه الممارسات وتحت مشاهدة ومسمع العالم برمته.
الوعي الديمقراطي لا يتوقف عند مجال السياسي فقط، بقدر ما يكون تربية ومضمون شديد الفاعلية في تكوين الفرد المنضوي في الجماعة حيث العلاقة الجدلية التي يتم التعبير عنها من خلال مقولة الفرد في الجماعة، والجماعة في الفرد، حيث موجهات التعبير التي تقوم على التأصيل والجدية والابتكار، وليس التوقف للنهل عن نموذج جاهز، والانغماس في مظهريات لا يعود منها طائل أو نتيجة.
إنها المعنى الذي يحفز العلاقة بتفاصيل الواقع، من أجل تكريس مجال الحرية الطامح إلى إثبات الذات الفاعلة، من دون الخشية من السلطة أياً كان نوعها وشكلها وتقمصاتها.. وعي يؤسس على توسيع مدى الحرية في صلب الثابت والراكد والمقيم، بحثا عن تفعيل وحفز العلاقات داخل النظام الذي يحاول أن يمسك بقياده، بعض النخب ذات الغايات والأهداف المحددة والثابتة. وإذا كانت ملامح التمسك بالسلطة، تشير إلى هذا العصاب المحتدم من قبل العديد من الجهات للانقضاض على السلطة القديمة تحت دعوى اتهامها بالرجعية، فإن الملامح الثورية المتجسدة من خلال هذه الفئات سرعان ما تتحول إلى أنظمة قمع شديدة البطش، انطلاقا من هاجس الخوف والخشية من الثورة المضادة.وعبر الحث المستمر على أن المؤامرة مستمرة والاستهداف مازال قائماً، يكون الطريق إلى اضطهاد الجماهير سالكاً لا يعاني من المعوقات.
الشغف بالبدايات
منذ التداول الأول لمفردة «مواطن» في أعقاب الثورة الفرنسية عام 1789، ورفع شعارات «الحرية، الإخاء، والمساواة» وطريقة التمثل لهذه المفاهيم مازالت قيد التبلور والتطور. فالنقلة التي تعيشها المجتمعات لا يمكن هضمها هكذا، من دون مقدمات وتأهيل من أجل استيعاب التغيير. وإذا كان يحلو للبعض الإشارة إلى الأصول الديمقراطية لدى الإنكليز انطلاقا من «الماكناكارتا» والعودة إلى مرجعيات الاستخدام خلال القرن الثالث عشر، فإن الواقع يشير وبمباشرة لا تدع مجالا للشك، إلى أنها لم تزد عن وثيقة إقطاعية.
لكنه الشغف بالبدايات الذي يحرضه الهوس بالتاريخ والبحث عن الأسبقيات. وبقدر الرهان على الديمقراطية في موطنها الأصيل الثابت الذي لا يقبل الإزاحة، حيث الغرب فإن التجربة المعاصرة لا تلبث أن تشير إلى جملة من التعديات والتجاوزات التي خطت على ملامحها الكثير من الشوائب إن كان على صعيد التمييز العنصري، أو الموجة المكارثية التي اجتاحت الوسط الثقافي الأمريكي، أو طريقة احتجاز المواطنين من ذوي الأصول اليابانية في أعقاب قصف بيرل هاربر عام 1941 أو الدعم الرسمي المقدم قبل الراعي الديمقراطي للعديد من الأنظمة العنصرية بشهادة الأمم المتحدة كالنظام الصهيوني في إسرائيل، أو نظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا..إنه التنامي في المفهوم من دون الادعاء بالاكتمال والمطلق، ولعل هذا هو الأصل الذي يميز الديمقراطية، ويجعل منها قادرة على تجاوز الأعراض السابقة. وبانطلاق المبادرة الذاتية من الداخل، يكون الوقوف عند هذا الأصل المؤكد على فكرة حقوق الإنسان، الذي يكون بمثابة القوة والدافع نحو توجيه زخم الثورة الذاتية، لمواجهة كل أشكال التسلط والاضطهاد والإقصاء، حيث الإيمان بقوة الإنسان الفاعل الذي يجب أن يحتل دوره، في دفع المجتمع نحو الأمام والارتقاء به كقيمة واعية متفاعلة، وليس مجرد كم وواجهة شكلية. فالأمر لا يتعلق بإعلان وإشهار رفض أو مناوأة، بقدر ما يكون التطلع نحو تركيز مجال المعنى الإنساني في صلب الواقع.
ضريبة التمّني
الديمقراطية نظام إنساني عام وشامل، لا يعترف بالأنظمة والأوطان والجغرافية والاقتطاعات والالتزامات بمعنى المقاولة، إنها الحس المتطلع إلى تركيز مجال دور الإنسان والإعلاء من قيمة حضوره ليكون ممثلا لإرادة الجماعة، من دون تحيزات أو سقوط تحت رحمة هذه القوة أو تلك السلطة أو النخبة. إنها الذهن والعقل المشبع بالمضامين المفتوحة والحرة، المتطلعة نحو توكيد الحقوق الأساسية، وجعل المشاركة في رسم تفاصيل الحياة بالمبادرة النابعة من الداخل، وليست هبة أو منّة من أحد، مهما كان هذا الأحد قويا أو متسلطا. وبقدر ما يكون هذا المفهوم شديد الإغراء والجاذبية، فإن الوصول إلى هذه الغاية لا يتم من خلال المرور عبر بوابات مشرعة بقدر ما تكون التضحيات والمرارات والخيبات والانكسارات، ضريبة لا بد من دفع فاتورتها من أجل بلوغ المعاني العظيمة.
لقد تم تصنيع النموذج الذي تم تصديره مباشرة من قبل القوى الاستعمارية نحو الوطن العربي في بداية القرن العشرين، فكانت النتيجة إنجاز برلمان بأمر صادر من جهات أقوى بإزاء طرف ضعيف لكن هذا المنجز كان يفتقر إلى المصداقية والإحساس العميق بالتجربة. وعليه فإن التجربة البرلمانية العربية سرعان ما تعرضت للانهيار، في أول مواجهة لها مع القوى الثورية التي أعلنت عن حضورها في أعقاب موجة الانقلابات التي سادت حقبة الخمسينات من القرن العشرين.
إن القوة التي تمنحها الديمقراطية للوسط الذي تعمل فيه،يجعل منها هدفاً يُؤخذ ولا يُعطى. وبالفعل فإن الطريق نحوها يقوم على المشاق والصعاب المضنية والتضحيات الكبيرة فيما يكون الساعون نحوها من مختلف الفئات والطبقات، عمال ومثقفون وطلبة ونقابيون. ومن هذا القوام الذي يُبرز مواطن القوة في هذا المفهوم، فإن التطلع نحو الديمقراطية يتخذ بعدا شديد الاختلاف، انطلاقا من حضور البصيرة النافذة والمتعلقة في هذا الفرز الدقيق للمعاني الكامنة فيها، من دون الخضوع لمناورات القوى المهيمنة وهكذا يكون مطلب الحرية هو الأصل فيها.
توزيعات القوة
الرغبة الطاغية في الوصول إلى النموذج الأصلح والأفضل، لا تعني الانغماس في التجليات التي يحددها نظام ما. وإذا كانت الديمقراطية تقوم على مستندات التعددية والتركيز على توسيع المشاركة في المجال السياسي والاندراج في تطبيقات حرية السوق وإفساح مجال المنافسة بالأقل من الاشتراطات، فهي لا تعني بأنها النموذج غير القابل للفحص والمناقشة، أو حتى الوقوف على ملامح النص والخلل الكامن فيها. وبقدر الإشارة إلى حرية الاختيار التي يتم التأكيد عليها بحرارة وحماس في هذا النموذج، فإن الدور الفاعل منطقيا لا بد أن يكون صادراً من لدن الجمهور وليس نظام الحكم. لكن واقع التداول يفرض مجال الممكن والمتاح، وليس الفرض والقسر الذي قد تظهر أشكاله في توزيعات القوة داخل المنظومة الواحدة حتى ليكون الاستنزاف وقد تبدَّى في صميم الوحدة الداخلية المفترضة للمجتمع. وإذا كان العقد الاجتماعي القائم بين الدولة والافراد، يفرض مجال التفاهم بين القوّتين،فإن التمثيل الانتخابي يبقى الأهم والأكثر حضورا في ترّصد مجال الجدوى والتأثير الذي يحفزه في السلطة الرسمية، من حيث مدى تبنيها لهذه التوّجهات، التي تكمن فيها الإرادة الجماهيرية.
التأكيد على الحرية يبقى بمثابة الأصل الذي يميز توجهات النظام الديمقراطي حيث الفرضية المستندة إلى أن السلطة تكون بيد المجتمع باعتباره الهيئة والسلطة التشريعية الوحيدة. فيما يكون دور السلطة الحكومية مركزا في مجال الإنجاز باعتبارها سلطة تنفيذية. ومن هذا التوزيع الوظيفي شديد الوضوح، يكون من العسير تقبل أي تدخل مفروض من قبل أي سلطة عاملة في المجتمع، باعتبار التوجيه والفرض إن كان على الصعيد الأخلاقي أو الثقافي لكن الانشغال في تحديد الصالح والطالح في خضم التفاعلات التي يفرزها المجتمع، تبقى تدور في فلك طريقة المبادرة التي تنهجها أي سلطة فاعلة فيه وهكذا يكون التسلل لدور السلطة الاقتصادية، لا سيما في المجتمعات الرأسمالية، حيث يفصح مجال الكارتلات ومراكز النفوذ عن قوى ضغط شديد، لا يمكن التغاضي عن مدى هيمنته وسيطرته البالغة في طريقة صنع القرار على الدولة ذاتها ومن هذا القوام تكون الديمقراطية وقد تم ضربها في الصميم.
(*) أكاديمي وباحث متخصص في شؤون تاريخ الفكر العربي الحديث
|