بقلم: جوزيف ناي(*)
بعد حملة خاطفة تسفر عن مقتل عدد قليل جدا من المدنيين الأبرياء تتم الإطاحةبالرئيس العراقي صدام حسين ويتدفق العراقيون إلى شوارع بغداد من أجل الترحيب بالقوات الأمريكية وحلفائها ثم تقوم قوات دولية متعددة الجنسية بحفظ السلام ويتولى مسئول من الأمم المتحدة إعادة تنظيم الحكومة العراقية ومراقبة الانتخابات التي ستتم بمنتهى النزاهة وفي خلال سنوات معدودة لن يبقى سوى عدد محدود جدا من الجنود الأمريكيين في العراق وفي إيران سوف تستمد القوى الديموقراطية قوة دفع من جارتها العراق.
وسوف تشهد سوريا تعديلات جذرية تماشيا مع الواقع الجديد وسوف يتم إقامة دولة فلسطينية ديموقراطية مسالمة بعد مفاوضات صعبة وسيختفي الإرهاب من العالم هذه هي الصورة التي يرسمها الرئيس الأمريكي جورج بوش للمستقبل ولكن هناك سيناريو آخر أو صورة أخرى لنفس المستقبل فالحرب يمكن أن تطول وتصبح أكثر دموية مما هو متوقع وبعد النجاح الأولي في الإطاحة بصدام حسين يتقاتل الشيعة والأكراد والسنة على الحكم وفي هذه الحالة ستضطر أمريكا إلى الاحتفاظ بأعداد كبيرة من القوات الأمريكية من أجل الحفاظ على النظام في هذه الدولة ولكن غياب علم الأمم المتحدة عن معسكرات هذه القوات يعني أن العراقيين سوف ينظرون إليها باعتبارها قوات احتلال وليست قوة حفظ سلام وسوف تزداد العمليات الإرهابية كما أن المتشددين في إيران المجاورة سوف يستخدمون وجود الخطر الأمريكي لدعم مركزهم ويستفيدون من الموقف الكوري الشمالي للقضاء على القوى الإصلاحية المعارضة ويكثفوا الجهود الإيرانية للحصول على أسلحة نووية وستتمسك سوريا بخياراتها.
كما ستقوم حكومة الليكود اليمينية المتشددة في إسرائيل باستغلال استمرار العمليات الفلسطينية لكي تقرر أنها لا تستطيع أن تتحمل مخاطر إقامة دولة فلسطينية وسوف ينتشر الإرهاب في مختلف أنحاءالعالم وهذه هي الصورة التي يرسمها مناهضو الحرب الأمريكية القادمة ضد العراق.
ولكن ألا يمكن أن تكون الحقيقة هي صورة وسط بين هاتين الصورتين ومهما يكن فالمؤكد أن تداعيات هذه الحرب سوف تتوقف على أشياء عديدة مثل طول هذه الحرب وحجم الخسائر المدنية وحجم التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في هذه الحرب ومدى انفراد أمريكا بإعادة بناء العراق بعد الحرب والحقيقة أنه بالنظر إلى الخلفية التاريخية والتركيبة السكانية للعراق فإنه من غير المحتمل قيام حياة ديموقراطية بالصورة التي يروج لها بوش بعد الحرب وإن كان يمكن إقامة نظام حكم أفضل وأكثر تعددية من النظام القائم حاليا في بغداد وسوف يستخدم بعض الإرهابيون الاحتلال الأمريكي للعراق من أجل تجنيد المزيد من الشباب الذين سيحاولون قتل الأمريكيين كما أن نجاح القوات الأمريكية يمكن أن يدفع كلاً من سوريا وإيران إلى تخفيف سياساتهما المتشددة ولكن إذا فشل بوش في إقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون بالتوصل إلى اتفاق مقبول مع الفلسطينيين فإن خريطة المنطقة يمكن أن تتغير بصورة جذرية تفوق تقديرات المتفائلين ولكن هناك خلف هذه الصور المتناقضة توجد معضلة تربك السياسة الخارجية الأمريكية منذ أيام الرئيس الأمريكي الأسبق ويدرو ويلسون وهذه المعضلة هي إلى أي مدى يجب على أمريكا أن تستخدم قوتها العسكرية من أجل جعل العالم أكثر أمنا للديموقراطية؟ فقد كان تكريس قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان جزءاً من القوة «الناعمة» لأمريكا وجزءاً جوهرياً في سياستها الخارجية ولكن الديموقراطية شجرة غضة تحتاج إلى أرض ممهدة لكي تنمو كما أنه ليس من السهل زراعة شجرة الديموقراطية في أي مكان ففي كل البلدان التي بعثت الولايات المتحدة الأمريكية بقواتها إليها على مدى النصف الأخير من القرن العشرين لم تنجح الديموقراطية إلا في عدد محدود جدا.
ويستشهد المتفائلون بنجاح التدخل الأمريكي في إقامة تجربة ديموقراطية ناجحة في كل من اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية ولكن الظروف اليوم في الشرق الأوسط تختلف تماما عن الظروف في كل من ألمانيا واليابان عام 1945 فالدولتان كان بهما طبقة متوسطة عريضة وتربة ديمقراطية سابقة ووجود عسكري أمريكي طويل ومحل ترحيب كما يتم الاستشهاد بتجربتي كوريا الجنوبية وتايوان للتدليل على أحدث نجاحات أمريكا في تحقيق الديموقراطية في دول أقل تطورا.
وهذا حقيقي بالفعل ولكن الديموقراطية لم تبدأ الانتعاش في هذه الدول إلا بعد عقدين من الزمان من النمو الاقتصادي أسفر عن تكوين طبقة متوسطة لم يعد من السهل أن تخضع للوسائل السلطوية القمعية والحقيقة أن الجدال حول الديموقراطية كهدف من أهداف السياسة الخارجية الأمريكية لا يعكس الانقسامات بين اليمين واليسار في السياسة الأمريكية فالمحافظون منقسمون حول هذه القضية الواقعيون التقليديون يحذرون من أن المحافظين الأمريكيين الجدد مثل أسلافهم من الجناح اليساري يقودون أمريكا إلى الجحيم في طريق مفروش بحسن النوايا فتحويل الشرق الأوسط إلى مكان ملائم للديموقراطية هدف يستحق الجهد ولكنه سيحتاج إلى المزيدمن الصبر وإلى مجموعة كبيرة من الوسائل وليس مجرد التدخل العسكري ومع ذلك يمكن تقليل الثمن والمخاطر إذا تمكنت الولايات المتحدة من إيجاد اتفاق عام وأهداف مشتركة مع الآخرين وتمكنت كذلك من مقاومة إغراء نفاد الصبر والتحرك المنفرد نحو هذا الهدف.
(*)عميد مدرسة كيندي للإدارة العامة في جامعة هارفارد ومؤلف كتاب «وهم القوةالأمريكية»: لماذا لا تستطيع القوة الوحيدة في العالم أن تتحرك بمفردها «خدمة كريستيان ساينس مونيتور - خاص بـ «الجزيرة»
|