Thursday 20th march,2003 11130العدد الخميس 17 ,محرم 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الديمقراطية؛النزول إلى أرض الواقع الديمقراطية؛النزول إلى أرض الواقع
د. إسماعيل نوري الربيعي(*)

من الجوهر إلى الإجرائية
في أشد لحظات التواتر التي تفرضها مكوّنات الوعي الفكري حول التفاعل الاجتماعي، يبرز مجال التحديد من قبل العديد من المفكرين حول الحدود التي تفرضها الفلسفة السياسية، من حيث ترصد مجال النظام الصالح والطالح الذي تفرزه معطيات التطبيق المباشر، والذي يتعلق دائما بالرغبة الشديدة والعارمة في بروز مجال النقد السياسي، والذي لم يعد حكرا على المتخصصين فقط، بل صار الموضوع الأوسع تداولاً من قبل الفئات العامة، هذا بحساب التقدم الفكري واتساع مجالات الوعي، والمرتبطة بالاتجاهات الحديثة التي أفرزها التعليم والتطور المتنامي لأجهزة ووسائل الاتصال والإعلام، بل إن الاتجاه نحو الكشف عن المعلومات والاستغراق في الاستبيانات ورصد مجالات الرأي، أضحى من الأساسيات التي تطبع تفاعلات الاتجاهات الرئيسة لدى العديد من الهيئات والمؤسسات العاملة في صلب النظام السياسي، وإذا كانت أصول هذه الظاهرة ترتبط بتجليات الفلسفة الليبرالية والتطبيقات الديمقراطية المباشرة. فإن تسللات التطبيق باتت تتمظهر في البعض من الأنظمة الشمولية والاستبدادية، انطلاقا من محاولة تكييف التطبيقات بما يتناسب والاتجاهات السائدة لديها. لكن الأمر لا يخلو من فوائد، فعلى أقل تقدير تبرز مجالات التفكير بالوسائل غير التقليدية، لدى هذه الأنظمة الموغلة في ظلاميتها، وهذا لوحده يُعد إنجازاً.
ما وصلت إليه التطبيقات المتعلقة بالأنظمة السياسية، يجعل من أشد الديمقراطيين تشاؤما، أن يعمدوا جازمين إلى الإمكانيات الواسعة للديمقراطية من النجاح، بل والتفوق على الأنظمة المناظرة لها. مركزين وجهتهم نحو اتجاهات توسيع السوق وفعالياته في توظيف هذا الاتجاه وتنظيم مسارات التأثير فيه. ولم يتوقف الأمر على المجال الديمقراطي ومدى فعله في الأنظمة الرأسمالية، بل إن الشمول والاتساع بات شديد الارتباط، بهذا النزوع الصادر عن العديد من المجتمعات للخلاص من أنظمة الحزب الواحد، التي أشبعت الجماهير شعارات والمزيد من الكلام حول المبادئ والانتماء والوطنية. في الوقت الذي يتم فيه هدر كرامة المواطن والعمل على إذلاله، من خلال أجهزة الرقابة والتسلط والبطش، تحت دعوى الحفاظ على الأمن القومي.
رهان التاريخ
النهاية التي حظيت بها الديمقراطية في السياق الذي أدرجه التاريخ، يجعل منها الهدف الذي يسعى نحوه الجميع، حتى باتت النظرة إليها تقوم على أنها الأكثر كفاءة والأشد قوة، بحساب مقارنتها بالأنظمة والأشكال والصيغ التي سارت عليها العديد من النماذج. وإذا كانت النتيجة قد آلت إلى ضمور وتآكل أنظمة الحزب الواحد، الواحدة تلو الأخرى، فإن الانتصار الذي تحقق للنموذج الليبرالي، يجعل منه في أشد لحظاته جاذبية.
التشكل الاجتماعي الذي ظهرت عليه الديمقراطية في بلدان المنشأ الرأسمالي، حيث منح المواطن فرصة انتخاب ممثله السياسي، وإفساح المجال لظهور مجالات التنوع والاختلاف، والاستناد إلى المنافسة الذي يوفره اقتصاد السوق، يجعل منها أن تكون في المكانة الأهم والمرموقة، إلاّ أن التداعيات التي تفرضها تجليات سقوط النظام الشيوعي، يجعل منها واقعة في إسار ملامح عقدة الاستحكام المستندة إلى الرابح والخاسر.
يبرز مجال الرابح والخاسر بطريقة شديدة الاستفزاز، هذا بحساب أن الخسارة التي طبعت سقوط النظام الشيوعي، لم تأت وفق السياقات التقليدية التي يفترضها الناس في حركة التاريخ. فالمشهد الدولي كان يشير وبمباشرة شديدة إلى وجود هذه القوى العظمى، والتي ما فتئت تعبر عن نفسها وذاتها السياسية بكل هذا الزخم من القوة. بل إن الأمر ارتبط ببعض الأحداث المتعلقة باعتقال الرئيس غورباتشوف، وحالة النزوع الشديد التي تبدت من قبل جنرالات السوفييت. إلاّ أن النظام انهار وسط ذهول الجميع بما فيهم أشد الليبراليين تفاؤلاً بسقوط الاتحاد السوفييتي.
تركز الاتجاهات المتعلقة باستقراء ظاهرة النهاية هذه، على حدة المجال الداخلي الذي أشار إلى المزيد من التداعيات والتراكم من الأخطاء التي يعسر تقبلها أو التغاضي عنها. فإذا كان التسلط قائما منذ البواكير التي رافقت ثورة أكتوبر، فإن الأمر يرتبط بهذا الكم الهائل من التسلط والذي لم يعد متوافقا مع روح العصر. فيما يبرز مجال الفعل الاقتصادي ليقول كلمته النهائية، حول هذا الهدر من الطاقات والإمكانات التي وقع فيها النظام الاشتراكي، وحالة الترهل وتنامي البيروقراطية التي مهدت لها الكوادر الحزبية والنخب القيادية على حساب التركيز على قطاع الإنتاج والعمل.
إدراك الواقع
الانهيار الداخلي الذي تعرضت له الأنظمة الشمولية، كان بمثابة التعزيز لمكانة النظام الليبرالي، الذي بات النظر إليه لا بوصفه أداة قطع وتدمير مباشر للنظام المنافس له. بقدر ما تكون الفعالية الكامنة فيه ومدى جدواها وقدرتها على مواجهة التحديات. وإذا كانت النتيجة التي يظهر عليها مدار وعي العالم حول هذا الشخوص والحضور الذي يتبدى عليه المجال الليبرالي، فإن الأمر يبقى متعلقا بالطريقة التي تقف عليها المجتمعات الأخرى حول القادم من الاستتباعات التي تفرضها الوقائع اللاحقة.
ها هي ذي المجتمعات الاشتراكية السابقة، تعيش الحلم الديمقراطي، وهي تعيش تحت وطأة الضغوط التي تفرزها عليهم آلية اقتصاد السوق وتماثلات الإجراءات المتعلقة بالسلطة، إلى الحد الذي باتت فيه، تظهر في أشد حالات الميوعة والتهرؤ والضعف، واستخفاف القوى الطارئة، والتي لم تتورع عن انتهاك القوانين والأنظمة، بل وتحدي السلطة ذاتها. وها هو ذا الحديث يترى عن المافيا الروسية، والتي غدت دولة داخل الدولة، من خلال ما تقوم به من فرض لنفسها كقوة لا يمكن لأي جهة أن تنال منها أو تحد من تطلعاتها. فيما صار الحديث عن التفكك والانهيار الذي تعاني منه مجتمعات الاشتراكية السابقة، وعلى مختلف الأصعدة والمجالات. معبّرا عن الكفاف والأقل من القليل حول الحاجات الإنسانية الأساسية، التي صارت المتصدر للآمال ورغبات المواطن، الذي بات يسترجع الأيام الخوالي التي كانت توفر له الدولة المأوى والدفء والخبز.
بإزاء التحولات التي تعيشها تلك المجتمعات، يكون الحديث عن العودة إلى النظام الاشتراكي وهيمنة الأخ الأكبر بحسب توصيف جورج أوريل، مجرد تهويم لا يعود بنتيجة أو طائل، بقدر ما يفصح عن السقوط في مجالات خارج وعي العالم ومدركاته. الأمر هنا يتعلق بالتفاعلات التي ينتجها الواقع ويحدد لها مساراتها، وإذا كان الواقع الراهن وتداخلاته المباشرة يشير إلى أهمية الديمقراطية الليبرالية والاقتصاد الرأسمالي وحرية السوق، فإن المستقبل لا يعترف أبدا بحديث النهايات والخواتيم.
الحضور والغياب
أين الحلم من الواقع، سؤال تحثّه التحوّلات التي يعيشها العالم حول المأمول وما هو قائم. وبقدر ما قيّض للعديد من المجتمعات الإفلات من براثن النظام التسلطي، والولوج في مواقعات الاندراج في التطبيقات الديمقراطية، إلاّ أن الوقوف على التفاصيل، يكشف عن هذا الولع الملفت بالواجهات الليبرالية، وليس بالأصول التي ميزت تجربة النشوء والتمثل الحقيقي والواعي للمثل الديمقراطي في أصوله التي نشأ فيها. وإذا كان السعي نحو الشرعية يكون بمثابة القاسم المشترك بين مختلف الأنظمة السياسية، فإن التثبّت بها يكون مداره بالاستناد إلى مستوى الإرادة الكامنة في صلب النظام من أجل تعميق هذه الشرعية من خلال توجيه الطاقات والإمكانات نحو التفعيل الإيجابي، الذي يأخذ بنظر الاعتبار هذا المجمل من التنشيط والحفز للفعاليات والأهداف المتعلقة بالمجموع وليس الانكفاء على المكاسب الخاصة والاقتطاعات المصلحية المباشرة.
الغياب الذي عانت منه الحقوق الأساسية للإنسان، جعلت من الأفراد يتطلعون بشغف ملفت إلى أهمية البحث عن سلطة أخرى قوامها القانون، وليس المزاج الصادر عن السلطة الشمولية العابثة بكل الإمكانات والقدرات والطاقات. والتركيز على الحرية بكل أشكالها وتداولاتها، من دون تقنين أو تحديد. إنها الوجهة النازعة نحو المزيد من المواجهات والكشف عن الحقائق، من دون خوف أو خشية من حاكم متسلط، إنها حرية التعبير عن الرأي وحرية النشاط الإنساني من دون قيود أو استتباعات.
وهكذا فإن شرعية الخبز الذي كانت تستند إليه الأنظمة التسلطية، تعرضت إلى التزعزع والضمور، بعد أن تحول هذا الخبز إلى وسيلة للإذلال، حتى ليبدو وكأن الأمر يتعلق بمنّة صادرة عن السلطة وهبة تستدعي الابتهال والصلاة، وليس حقا أساسيا قوامه التبادل المستند إلى المجهود الذي يقدمه المواطن للمجتمع من خلال ما يقدمه من عمل. ومن هذا التخشب الذي تسرّب في المفاصل الرئيسة للأنظمة الشمولية، والافتقاد لروح المبادرة والمرونة والتكيّف مع التحولات التي يعيشها العالم، يكون المؤشر وقد تحدد عند الدرجات الأدنى من الاشتغال فالصمت والنهاية.
ما تبقى من القديم
النجاح الذي توفر للدولة الرأسمالية من الحصول على الرفاه، جعل منها النموذج الذي يحفز المجتمعات نحو تقليده والمضي إلى المزيد من تقليده. وإذا كانت العديد من الأنظمة والثقافات قد أعلنت رفضها لثقافة الاستهلاك الذي يؤكد عليه النموذج الرأسمالي، فإن الجانب الاجتماعي بقي يؤدي آثاره غير المنظورة بداية، والمتفاقمة في مراحل لاحقة، حتى لم يعد من الممكن التغاضي عن الإفرازات، التي غدت بمثابة الظواهر المتفاقمة.وهكذا رضخت أنظمة موغلة في شموليتها وانقباضها وأسوارها الحديدية، إلى الأخذ بالعديد من تلك المظاهر. حتى صارت مطاعم الماكدونالد وإعلانات الكوكاكولا، تقف جنبا إلى جنب مع الأيقونات الماركسية الحاضنة والمحرضة على الثورة.
لقد تداخلت الحكايات في عمق المشهد، حتى صار خطاب الثورة الرسمي يعاني من التشويش الذي تحدثه فيه علامات الثورة الاستهلاكية. ليتعرض الكاكي الصيني إلى الضمور والتنحي بازاء مدركات الجينز الأميركية. فيما تهاوت المائدة التقليدية تحت زخم الدعايات المستمرة لمطاعم الوجبات السريعة، ودور الأزياء والمظاهر المتعلقة بهذا الإعجاب المفرط من قبل الشباب نحو تقليد نجوم السينما والمطربين والرياضيين. وبقدر ما حاولت الأنظمة الشمولية الحفاظ على العلاقات السائدة فيها، من خلال التحديد والتقنين، فإن الحضارة الرقمية والمعلوماتية، باتت تعبر عن نفسها عبر هذا الزحف الذي لا يتوقف، إن كان عن طريق الإنترنت أم القنوات الفضائية وشبكات الاتصال التي لا تنثني عن التطور وقطع الأشواط البعيدة في التحويل على صعيد وظائفها الرئيسة.
القدرة على التحول والتحوير الكامنة في الليبرالية الديمقراطية، جعل منها متوائمة مع طبيعة التحديات التي تفرضها التطورات والتغيرات، بل إن النقض والنقد المستمر، منحها المزيد من الطاقة والقدرة على خلق الأسباب نحو الظفر بأسباب البقاء والتفاعل والحفز. ولعل الأهم هنا أن البقاء في هذه المنظومة لم يكن هاجسا لدى النظام الرسمي، بقدر ما كان التحدي والتنافس بمثابة الأصل الإدراكي، في التوجه نحو الإنسان والإعلاء من قيمته على مستوى الواقع وليس الشعارات.

(*)أكاديمي وباحث متخصص
في شؤون تاريخ الفكر العربي الحديث

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved