إذا كنَّا نريد أنْ نعرف طريقة تجهيز حصانٍ للسباق، وللمنافسة في المضمار فما علينا إلا أنْ نذهب إلى نادٍ من نوادي الفروسية، ونسأل سائس الخيل عن الأسلوب الذي يتبعه معها قبل أن تصبح مؤهًلةً للمشاركة في ميادين السباق، ونرى بامِّ أعيننا اصطبل الخيل وما يجري فيه من عنايةٍ فائقة بغذائها ونظافتها، وحرصٍ على صحّتها وسلامتها.
حينما نتابع سباق الخيول، ونرى حصاناً منها تُسَرُّ برؤيته العين، ويسعد بأنغام ركْضه القلب، وقد أصبح سابقاً تاركاً وراءَه الخيولَ تحاول أنْ تشُقَّ ما تركه لها من بقايا غباره لتلحق به، فلاننسى بعد أن نقول ما شاء الله لا قوَّة إلا بالله أنَّ هذا الحصان السابق قد نال من التجهيز والإِعداد، والعناية الفائقة بطعامه وشرابه، وترويضه وتضميره، ونظافته ودوائه ما جعله حصاناً سابقاً، وما جعل صاحبه بفوزه واثقا.
هذا عن الحصان السابق الذي لا يُشَقُّ له غبار، ولا تسير معه الخيول الأخرى في مسار، أما تلك الخيول التي تحاول أن تجد لها مكاناً بعده، فهي أيضاً تحقِّق لمتابعها المتعة، وتثير في نفسه الإعجاب، لأنها لم تنزل إلى ميدان السباق إلا وهي تستحق أن تكون منافسةً، فهي جميعاً قادرةٌ على إمتاع الناظرين، وإنْ تأخرت وتفاوتت في درجات الفوز.
إنَّ تجهيز هذه الخيول قد سبق نزولها إلى المضمار بفترة زمنيَّة كافيةٍ للإِعداد والتجهيز، حتى أصبحت جديرةً بأن تعزف بحوافرها المباركة لمحبيها أجمل ألحان الركض، وأرقَّ أنغام الصَّهيل.
هذا ما يجري في مضمار الخيول، وميادين سباق الفروسية، فكيف يكون الأمر في مضمار البلاغة والبيان، وميادين اللغة، وساحات الكلام؟.
إذا سمعنا خطيباً مفوَّهاً يثير الإِعجاب، ويأخذ بالألباب، أو محدِّثاً بليغاً يشدُّ الانتباه، أو محاوراً متميِّزاً قادراً على الإقناع، أو واعظاً مؤثراً يسافر بك في عالم الموعظة والاعتبار، أو شاعراً مبدعاً يحلِّق بك في أجواء خياله وفنِّه الشعري البديع، أو محامياً ناجحاً يعرض قضيَّته باقتدار، أو مسوّقاً تجارياً يُحسن عرض ما لديه بلغةٍ قوية تناسب ما هو فيه من مقام، أو مُذيعاً يسافر بك مع أدائه المتميِّز عَبْر موجاتِ الأثير، إذا سمعنا ذلك كلَّه أو بعضه، وبلغ بنا التأثّر بما سمعنا مَبْلغَه، فلاننسى أنْ نُدير في أذهاننا السؤال المهم الذي أَدَرْناه هناك في سباق الخيول: كيف وصل هذا الإنسان إلى هذا المستوى من الإبداع؟ ولا نغفل عن تلك الكلمة المباركة التي أمرنا بها دينُنا حينما تعجبنا الأشياء «ما شاء الله لا قوة إلا بالله».وهنا يجب ألا يغيب عن بالنا أنَّ وراءَ هذا كلِّه من مراحل التجهيز والإعداد ما كان سبباً في هذا المستو الذي أعجبنا وأطربنا.
وإذا كانت خيول السِّباق المرشَّحة للفوز تُغذَّى بالجيد من الطعام، فإنَّ خيول البلاغة والبيان تغذَّى بالجيِّد من الكلام، ولابد أنْ نكون على يقين أنهَّ لا يمكن للغة التخاطب فيما بيننا أنْ ترقى من غير إعدادٍ وتجهيز.
الكلمة رسالةَََُ، وهي رسالةُ عظيمة لأنها هي الوسيلة الأولى التي يحدث بها التأثُّر والتأثير بين الناس، وهي التي تنقل على متن فصاحتها وبلاغتها ما نحمله من المشاعر، وما نؤمن به من المبادئ والقيم والأفكار إلى المخاطبين، وهي رسالة عظيمةُ لأنها مرتبطة بالقلب واللسان وهما أهمُّ عضوين يملكهما الإنسان.
لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدَّم.
والمثل يقول: إنما المرء بأ صغريه قلبهِ ولسانه، ويقول أبوبكر الصديق رضي الله عنه «إن البلاءَ مؤكَّل بالمنطق».
ما أجمل أن نرِّبي أنفسنا وأولادنا على هذا المعنى المهم للكلمة في حياة البشر.
إشارة:
رب لفظ واحد تحمله
نبره الصدق يساوي حججا
|
|