تعتبر العشوائية الاستثمارية المصحوبة بضعف الثقافة الاقتصادية من أخطر النتائج التي خلفتها سنوات الوفرة أو الطفرة الاقتصادية ومن أشدها فتكاً بالاقتصاد السعودي. ولعل من أبرز ملامح هذه العشوائية انتشار ظاهرة التقليد الاستثماري في الكثير من الأنشطة التجارية دون اكتراث بمؤشرات قوى السوق ودون اعتبار لنتائج دراسات الجدوى الاقتصادية. كما أن من أبرز ملامح هذه العشوائية تكدس المشاريع الاستثمارية المتشابهة في مواقع جغرافية متقاربة دون مراعاة للمتغيرات الهامة التي تحدد حجم الطلب في كل موقع جغرافي وتحكم المسيرة المستقبلية للمشاريع الاستثمارية.
ولقد أدى انتشار مثل هذه الظاهرة في الاقتصاد السعودي إلى خسائر كبيرة على مستوى الأفراد وخسائر أكبر على مستوى الاقتصاد الوطني الذي حُرم من استثمار الأموال المهدرة في فرص ومجالات استثمارية ذات مردود ربحي واقتصادي أعلى وذات علاقة أكبر بمتطلبات السوق واحتياجات المواطن.
ولعل ما دفعني إلى الحديث عن هذه العشوائية الخطيرة في المجال الاستثماري ما نشاهده في الوقت الحاضر من انتشار كبير لمجمعات الاتصالات التي تختص في بيع أجهزة الهاتف الجوال وإكسسواراتها المختلفة مما ساهم في زيادة حدة المنافسة بين تلك المجمعات وقلل من هامش الربح الذي يكفل استمرار مثل هذه الأنشطة على الساحة الاقتصادية. ومما لا شك فيه فإن الخسائر المباشرة لتلك المنافسة الشرسة تتمثل في فقدان الكثير من أبنائنا لرؤوس أموالهم التي كانت تحمل أحلامهم المستقبلية وفي فقدان أصحاب المجمعات لطموحاتهم الربحية التي كانت تقف وراء قرارهم الاستثماري وفي خسارة الاقتصاد الوطني لهذه الأموال التي كان بالإمكان استثمارها في مجالات أخرى تسهم في دفع عجلة التنمية الاقتصادية. وإذا كانت هذه النتيجة معلومة للكثير فإنني بسذاجة كبيرة أتساءل عن المتسبب في حدوث مثل هذه العشوائية الاستثمارية التي لا تقتصر فقط على مجمعات الاتصالات؟ هل هو المستثمر الذي لا يمتلك المعلومة الكافية التي تساعده على التنبؤ بمعطيات المستقبل؟ أم هل هو المسؤول الحكومي الذي تقع على عاتقه مسؤولية التخطيط للمشاريع الاستثمارية بما يكفل تحقيق المصلحة الوطنية والمحافظة على المصالح الخاصة؟ في اعتقادي أنه في ظل النقص الملحوظ في ثقافة الفرد الاستثمارية تبقى المسؤولية معلقة في رقبة الجهات الحكومية التي لديها من المعلومات ما يكفي لتنظيم الفرص الاستثمارية والحد من اللخبطة الاستثمارية التي تعتمد على التقليد أكثر من اعتمادها على معطيات دراسات الجدوى الاقتصادية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن مفهوم الحرية الاقتصادية التي تحاول الجهات الحكومية التمسك به لمواجهة مثل هذه الانتقادات لا يعني العشوائية ولا يعني الفوضى الاستثمارية التي تقود إلى خسائر فردية ومجتمعية ولكنها بالتحديد تعني حرية الوحدة الاقتصادية في اتخاذ قرارها الاستثماري في إطار معلوماتي وتنظيمي متكامل. ونشير هنا إلى أننا لا نطالب بتحويل سوقنا المحلية إلى قلاع احتكارية ولكننا نطالب بحماية رؤوس أموالنا من شراسة المنافسة ونيرانها المحرقة. وهذا لن يتحقق إلا إذا كانت الجهات الحكومية مؤهلة لتخطيط وتوزيع المشاريع الاستثمارية وفقاً للاحتياجات الكمية والنوعية للسوق. فهل يتحقق ذلك؟ الله أعلم.
|