* مارك رايس أوكسلي خدمة كريستيان ساينس مونيتور- خاص ب«الجزيرة» :
يفكر البريطانيون منذ الآن في نظرة التاريخ إلى الحرب المحتملة ضد العراق حتى قبل أن تبدأ وقائع هذه الحرب. وهل سيذكرها التاريخ باعتبارها انتصارا كالذي حققته قوات التحالف الدولي ضد العراق في حرب تحرير الكويت عام 1991؟ أم ستتحول إلى حرب استنزاف مريرة للقوات البريطانية كما حدث خلال ثلاثينيات القرن العشرين في العراق؟ وهل ستكون حربا قصيرة يتحقق فيها انتصارا سريعا كحرب الفوكلاند التي خاضتها بريطانيا عام 1982 ضد الأرجنتين؟ أم أنها ستتحول إلى كارثة تضع خط النهاية للمستقبل السياسي لرئيس الوزراء البريطاني توني بلير كما وضع العدوان الثلاثي الذي شاركت فيه بريطانيا والتي يطلق عليها البريطانيون اسم حرب السويس عام 1956 خط النهاية لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق أنتوني إيدن؟ ورغم أن هذا الجدال بهذه الصورة حول الحرب ليس مثاليا لكنه يمثل أهمية كبيرة بالنسبة إلى مستقبل توني بلير الذي يراهن بمستقبله السياسي كله على الحرب القادمة التي يصر عليها رغم المعارضة الشعبية الواسعة له.
فعلى الرغم من أن أحدث استطلاع للرأي في بريطانيا أكد أن 31 في المائة ممكن شملهم الاستطلاع قالوا إنهم راضون عن أداء بلير كرئيس للوزراء فإن المعارضة الشعبية للحرب مازالت تتزايد. ونظرا لأن بلير يتقدم نحو هذه الحرب في ظل معارضة شعبية غير مسبوقة فإنه لجأ إلى حليف قوي جدا لدعم موقفه وهو الماضي.
لذلك فقد بدأت أحاديث بليرفي الفترة الأخيرة تأخذ شكل دروس في التاريخ حيث تمتلىء أحاديثه الأخيرة بالكثيرمن الإشارات التاريخية من حوليات القرن العشرين.
وقد تأكد هذا الاتجاه التاريخي في خطب بلير عندما تحدث الأسبوع الماضي لكي يقول إن تجاهل الرئيس العراقي صدام حسين اليوم لا يختلف كثيرا ولا يقل خطورة عن تجاهل خطر الزعيم النازي أودولف هتلر خلال الثلاثينيات من القرن العشرين.
قال بلير أمام أحد تجمعات حزب العمال البريطاني عندما ننظر إلى الوراء قليلاً او بقدر كبير من الاندهاش إلى عدم التحرك لمواجهة الخطر الواضح. حيث نرى الآن أن خطر الفاشية كان واضحا في الثلاثينيات وأنه كان من الضروري التحرك لمواجهة هذا الخطر. فهذا كله واضح لنا الآن لكنه كان على العكس تماما في ذلك الوقت وهو ما جعل البريطانيين في ذلك الوقت ينظرون إلى رئيس الوزراء الأسبق نيفيل شيبمرلين كبطل بسبب رحلته إلى ألمانيا لمقابلة الزعيم النازي هتلر لتجنب الحرب عام 1938. ورغم الدوافع النبيلة لتشيمبرلين إلا أن رحلته لم تكن الوسيلة الأمثل لمواجهة الخطر النازي.
فقد كان تشيمبرلين يجاهد من اجل السلام. وهو لم يكن رجلا سيئا بل إنه كان رجلا طيبا. لكنه كان الرجل الطيب الذي اتخذ القرار الخطأ. ولكن مشكلة بلير هي أن المؤرخين لا يقتنعون بهذا الحديث. فهم يقولون أن المقارنة غير سليمة. وأن الظروف التي أدت إلى اشتعال الحرب العالمية الثانية تختلف تماما عن الموقف العراقي اليوم. كما أن هتلر بأفكاره الفاشية العنصرية وقوته المسلحة الهائلة وأصراره على التوسع في القارة الأوروبية كان يشكل خطرا حقيقيا أكثر كثيرا مما يمثله صدام حسين الآن.
يقول روبن كيلفتون استاذ التاريخ بجامعة وارويك البريطانية إن رحلة تشيمبرلن إلى ميونيخ كانت في ظروف تختلف تماما عن الظروف الراهنة. وصدام حسين ليس هتلر كما أنه لا يتصرف بطريقة هتلر نفسها ولا يتحرك وفقا أيديولجية هتلر نفسها. وإذا كانت المقارنة بين الموقف العراقي الراهن وأحد المواقف التاريخية فلتكن المقارنة مع حرب الخليج الثانية وإن كانت الظروف بين الموقفين لا تجعل المقارنة مقبولة بدرجة كبيرة.
ففي حرب الخيلج الثانية حققت الولايات المتحدة انتصارا سريعا على العراق وهي الآن تحاول تكرار اللعبة نفسها. ولكن الظروف في الحرب الحالية ستكون مختلفة تماما. فأمريكا وحلفاؤها سوف يرسلون قوات المظلات للنزول على العاصمة العراقية بغداد بهدف السيطرة على المدينة لذلك فإن المهمة هذه المرة تختلف عن مهمة هذه القوات في حرب الخليج الثانية.
والخطر الحقيقي الذي ينتظر هذه القوات هو أن يطول أمد القتال في العاصمة بغداد دون أن يتم العثور على الرئيس العراقي صدام حسين. مع تزايد الغضب الشعبي في العالم العربي ضد هذه الحرب.
يعشق السياسيون استخدام التاريخ كوسيلة لإقناع العامة بسياساتهم. فهذا لايوفر لهم فقط بعض الحجج التي تدعم مواقفهم ولكن أيضا يجعلهم يظهرون أمام شعوبهم وكأنهم يجيدون القراءة ومثقفون. ولكن هذا الأسلوب يصيب المؤرخين بالغضب والجنون. فهؤلاء المؤرخون يرون أن هذا الاستخدام للوقائع التاريخية يتم بصورة انتقائية ومتحيزة وأحيانا بصورة خاطئة.
يقول هيو ستاركن استاذ تاريخ الحرب في جامعة أوكسفورد إنه يجب أن يتعامل المرأ مع محاولات السياسيين لاستخدام التاريخ من أجل عقد مقارنات سهلة. ويضيف أن هذا لا يعني أننا نقول إن التاريخ بلا قيمة لأننا بالفعل نستفيد ونتعلم من تجارب التاريخ.
ولكن في الوقت نفسه من الغباء الشديد أن نلجأ إلى التاريخ لنستعيد بعض وقائعه ونطبقها بصورة كاملة على الأزمات الموجودة بالفعل كقوالب ثابتة. وعلى الرغم من ذلك يمكن القول إن هناك وقائع تاريخية أخرى سيكون من المفيد انتقاؤها للرد على بلير مثل الدروس المستفادة من الحرب الأمريكية في فيتنام والحرب البريطانية في أيرلندا الشمالية. كما أن بلير لم يذكر حرب السويس عام 1956والتي تبدو أكثر الحروب التي يمكن مقارنة الموقف الحالي بها. ففي هذه الحرب كان هناك رئيس عربي يهدد المصالح التجارية الغربية. وتشكل تحالف ثلاثي لقتال هذا الزعيم وهو جمال عبد الناصر في ذلك الوقت ولكن عندما انتهت الحرب بفشل بريطانيا في تحقيق الهدف منها تمت الإطاحة برئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت أنطوني إيدن. ولكن بدلا من ذلك فإن توني بلير ينظر إلى المنافع التي قد تعود إليه من هذه الحرب. يذكر أن توني بلير يكاد يكون أكثر رئيس وزراء بريطاني منذ انهيار الامبراطورية البريطانية يشارك في عمليات عسكرية خارجية.
ففي خلال ست سنوات فقد شاركت القوات البريطانية في أربع حروب خارجية وهي ضرب بغداد 1998 ثم كوسوفو وسيراليون و أخيرا أفغانستان.
وقد تذكر بلير حالة كوسوفو عام 1999 على وجه التحديد بسبب أوجه التشابه الكبيرة بينها وبين الموقف العراقي. فقد كان هناك ديكتاتور الصرب يقمع المسلمين الألبان وكان هناك انقسام في المجتمع الدولي حول الأسلوب الأمثل للتعامل معه وانتهت الحرب بانتصار التحالف الدولي على يوغوسلافيا في خمسة وسبعين يوما فقط. ولكن المؤرخين يعربون عن قلقهم من هذه المقارنات البارعة. يقول ستاركن أن التاريخ هو مهنة البحث عن التنوع والاختلافات التاريخية وليس عن أوجه التشابه. وينقل ستاركن عن خبير الفكر الاسترتيجي الكبير كارل فون كلاوسفيتز الذي يعد أبا الفكر الاستراتيجي في العالم قوله إنه من المفيد للقادة أن يدرسوا التاريخ ولكن لا يجب أن يرافق التاريخ القادة إلى أرض المعارك.
ويختتم ستاركن كلامه بالقول إنه لا يؤمن بأن التاريخ يكرر نفسه.
|