Tuesday 18th march,2003 11128العدد الثلاثاء 15 ,محرم 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

مفهوم «الحق والحرية» في السرديات بين: الإفراط والتفريط..! «2» مفهوم «الحق والحرية» في السرديات بين: الإفراط والتفريط..! «2»
د. حسن بن فهد الهويمل

ولما كانت «السرديات» الإبداعية وهي مجال بحثنا متعددةً متنوعة، كان لا بد أن نميز كل نوع بسمته، ثم نجعل هذه السمة كالاسم، لا تكون إلا له، ومن أحدث في السمة ما ليس منها فهو رد، لأنه يطمس معالمها. ولزوم السمة لا يمنع من التجديد، ولا من مواكبة الحياة. وعندما ندخل مرحلة الطمس، يكون لزاماً على ذوي الأبصار والبصائر والذخائر المعرفية بذل العلم، وإسماع الجاهل.
والذكر الحكيم ندب إلى سؤال أهل الذكر، والرسول الكريم أبان بأن دواء العي السؤال. وإذا استبد الجاهل بمثمنات الحضارة، تحت أي مظلة، نقضت حضارة الأمة عروة عروة، وانمسخت شخصيتها، والمتعالون على التعليم والإرشاد، وهم أحداث مبتدئون ترتفع بهم خفة عقولهم، كما الدخان أو القتام، وكيف يرفض التزود من العلم عاقل، ومن ذا الذي شب عن الطلب، واستغنى عن المؤسسات الثقافية، وما نحن عليه من ضعف واستكبار مؤشر استبداد جاهلي، وغلبة حداثية، خرجت بالأمة من شرطها النهضوي، ولم تسلك بها طريق الرشاد، فكان أن تقطعت بها الأسباب.
ولو ضربنا الأمثال فيما نحن بصدده، لتبدت لنا عثرات ألْسنة، وسقطات أقلام. ومن البدهيات أننا حين ندعو الأشياء بأسمائها ونقول: هذه «رواية» وتلك «قصة» وتيك «سيرة ذاتية» وهذا «أدب رحلة» فإنما نقول ذلك بموجب معهود ذهني، يضمر الشرط والضابط المتكرسين مع التداول. واحترام المعيارية والقيم لا يعني السكونية والتحجر، وحمايتها لا تعني الوصاية، فالفن واللغة كوائن حية تنمو، مثلما تنمو الأجسام والأشجار، فالجسم ينمو، ولكنه يحتفظ بالمكونات الأصلية والملامح المميزة، ويظل جسماً لا يختلف أحد حول جسميته، قد تتغير ملامحه، ويزداد في الخلق بسطة، ولكنه لا يبرح سمته، ولا معهوده في ذهن المتصور له، والنمو والتطور لا يجعل القرد إنساناً، إلا فيما ذهب إليه «الداروينيون». ومثلما يكون النمو والتطور مع الإنسان، يكون مع الفن، ولكنه لا يحيل النثر إلى شعر، ولا الشعر إلى نثر، ولا يجعل الخاطرة قصة، ولا المقالة رواية. وحين يكون من حق «المبدع» السارد و«الناقد» المنظر الدخول في معمار أي سمة فنية للتعديل أو التبديل بالقدر الذي يحفظ لهذه السمة مرتكزاتها، يكون من حق «الناقد» الحكمي التطبيقي، بوصفه رديفاً للمبدع، أن يتصدى لكل من أراد تحريف المصطلحات عن مواضعها، وأن يمسك بالمتسلقين محاريب الفن من المبتدئين الذين لا يحملون موهبة، ولا يتقنون لغة، ولا يتوفرون على ثقافة، ولا يستحون من ممارسة الرذيلة وتحويلها إلى نص سردي، يفسد الذوائق والأخلاق. وحين لا يذود الناقد المتمكن عن حياض الفن الرفيع، تهدم أركانه، ويستباح حماه. وفنون القول لا يعددها إلا تعدد سماتها، واحتفاظ كل نوع بسمته. ومن خطل الحداثيين القول بمصطلح «الكتابة» ليكون فن القول مجموعاً بهذا المصطلح. ويكون من حق المتسلق أن يخلط بين الفنون، كما يخلط المبتدئ بين البحور الشعرية، ثم لا يرضيه إلا أن يكون الشاعر والقاص والروائي والمسرحي، موجباً على النقاد أن يجعلوه المجلي في كل فنون القول، وإن لم يفعلوا أحال اعتراضهم لكبت الحرية، وغمط الحق، وممارسة الوصاية وسلطة المؤسسة، والقصاص والروائيون ليسوا بذي شوكة بحيث نتألف قلوبهم، وواجبهم سماع الرأي، وواجبنا مواجهتهم حتى يفيئوا لأمر الفن واللغة والقيم.
والمتعقب للإبداعات السردية يقف على انتهاكات فنية، وإخفاقات لغوية، وضحالة دلالية، وسقوط أخلاقي، وانحراف فكري، ومدارة ومداهنة، وكأن العابثين قِدِّيسون معصومون، وكأنه محرم علينا إرشادهم. حتى لقد ادعى بعض المتطاولين على الفن الموهبة الروائية والقصصية والشعرية، و لم يقدم لإثبات هذه الدعاوى العريقة إلا كلاماً سوقياً، لا يحمل أي سمة من سمات الإبداع الروائي أو القصصي أو الشعري. ولقد وقفت على مؤلفات تشبه الموسوعات، تتداخل مع كتب التاريخ، وتأخذ من كل فن بطرف، بحيث لا يدلك على نوعها إلا ما كتب على أغلفتها. ولو أن ذكياً نزع الغلاف، وطمس اسم الكتاب، وقدمها إلى قارئ عادي، لما عرف لهذا الجمع أصلاً معرفياً، ولما أعاره أدنى اهتمام، ولكن الأسماء الملمَّعة، والمذهبية المعْمِية، والشللية المصمة، غمرت المشاهد، وحالت دون أعمال متميزة: فنياً ودلالياً ولغوياً. ولو رضينا بما يتبادله أولئك من أنخاب الثناء، وأعطينا المدعين بدعواهم، لما كان شعر ولا رواية ولا قصة. وذلك بعض ما تعاني منه مشاهد الأدب، وما على المرتاب إلا أن تمتد يده إلى فيوض الإصدارات، ليقف على مقترفات لا تغتفر، ولسنا بدعاً من الأمم، فالروائيون والقصاص ومن ورائهم النقاد المواطئون على الخطايا، يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون، وهذا أشهر الروائيين المعاصرين أوجوستوفورنتيرو/ ت2003» كتب سطراً أو بعض سطر، مدعياً أنه أقصر قصة. وهذا نصها: «.. وعندما استيقظ كان الديناصور ما يزال هناك» ولقد تقبلها النقاد بقبول حسن. ومن مبتدئينا من كتب السطور الثلاثة، وسماها قصة، ووجد من يداهنه. وإذ نعرف عمق الاختلاف المشروع حول «شكل الرواية» وحول مفهوم «السرد» فإننا لا نأخذ بالصرامة والحدية والقطعية، ولكننا نفسح المجال لكل التصورات المنضبطة. ولقد تقصى الاختلاف حول «الشكل» و«مفهوم السرد» دارسان في كتابين التزما فيهما المنهجية والموضوعية، هما كتاب: «بنية الشكل الروائي» تأليف حسن بحراوي، وكتاب «السرد في الرواية المعاصرة» تأليف د. عبدالرحيم الكردي، بحيث استوفيا كل الاحتمالات. واستفحال التناقض بين المفاهيم والتصورات، يحدو بالباحث عن المعلومة، توخي الحق، وعدم البحث عن الرخص أو العزائم وحدها. وما لا نريده، انفلات العقد في صرعة التجريب، وتبرم المبتدئين ورفضهم السلطة باسم التسلط. وإذ تكون المختبرات العلمية تُسِرُّ فعلها التجريبي، ولا تبدي به، حتى يُعتمد من ذوي الخبرة والاختصاص، فإن على التجريبيين في الفن ألا يتخذوا تجريبهم قضية مسلمة، وعملاً لا معقب له، ما لم تتفحصه المؤسسات، ويختبره النقاد، وتقبله المشاهد.
ولما كانت الإشكالية المتولدة عن تعدد المفاهيم، قد دفعت بأطراف القضية إلى الإيغال في الانقطاع المضاعف: انقطاع بين المبدع والمتلقي، وانقطاع بين المبدع والفن بشروطه وجذوره، وانقطاع بين المبدع والناقد من جهة، وسائر القيم الحضارية من جهة أخرى، فإننا والحالة تلك سنتقصى الطرائق التي تكفل أدنى حدٍ من التواصل، ولا تقع في الخطابية والمباشرة والتسطح. وليس أضر على أمة الفن من التلاحي في غياب الاستيعاب للطارف والتليد، وذهاب كل مخاصم بمفهومه للحدود والآفاق. وأين منا من يرى «التجلي» وصمة إخفاق و«الخفاء» سمة تألق، ثم لا يكون تحديد للقدر المطلوب منهما؟ وأين منا من ينتمي لحضارته، ولا يرى المزايدة حول ثوابتها ومحققاتها في الأنفس والآفاق، ثم يخالف ما هو معلوم منها بالضرورة؟ وإذا قيل له: اتق الله. أحال إلى التسلط والوصاية والمزايدة. وتلاحق التخليات، أدت إلى تباعد الشقة بين أمهر المتلقين وأبرع المبدعين.. وبالخفاء المتعمد والمتكلف تعطلت لغة الكلام، وقامت مقامها معميات ومبهمات باسم الغموض والانزياح والرمز والأسطورة والإشارة والقناع ، وما شيء منها جاء على أصوله وضوابطه، وإن كانت حدة الانقطاع ماثلة في الشعر الحداثي، كما هي عند «أنسي الحاج» وأضرابه، فقد تستشري في السرديات، إن لم يتدارك النقاد الأمر، ويثبتوا أفئدة الناشئة التي عصف بها الاستدراج. وإذ نكون مع الرمز والأسطورة والعدول والقناع فإن الكينونة مشروطة بمعقولية ذلك كله ومشروعيته. وإذ تكون السرديات الإبداعية غير «الشعرية» في قصدية الجمال والانفعال، يكون النص السردي أقرب إلى «الأدبية»، فيما يكون النص الشعري أقرب إلى «الشعرية»، ولقد حاول البعض الإيغال في الأدبية السردية، لتناهز الشعرية، وتلمسها النقاد في بعض الإبداعات المتميزة، نجد ذلك عند «بشير القمري» في كتابه «شعرية النص الروائي» وعند «سامي سويدان» في كتابه «في دلالة النص وشعرية السرد».
وتلك الرؤى والتصورات تجعلنا أمام مستويات قولية:
القول العادي المهتم بمجرد التوصيل القطعي الدلالة، دونما جمال أو إمتاع أو ضابط فني، ويشمل: كلام العامة فيما بينهم، والقول العلمي الحامل لرسالة معرفية، مثل كلام الفقهاء والمؤرخين، ومن في مستواهم.
والقول الأدبي الذي يحمل هم الإمتاع والاستمالة والإقناع، ويتطلب توفر «أدبية» السرد و«شعرية» النظم، وهما سبيل المحفزات الفنية.
وعلى ضوء ما سبق فإن هناك «الشعرية» و«الأدبية» و«القولية» والإبداعات السردية تحتل الوسطية، فليست «شعرية»، وليست «قولية»، وإنما هي «أدبية»، والتخلي عن الأدبية بحجة الواقعية اللغوية رجوع إلى الوراء، وخروج من دائرة الفن.
وهنا نتساءل عن امكانية جعل النص نصاً أدبياً، ومتى يكون المرسل قادراً بالعفوية لا بالتعمل على إنتاج نص أدبي، يتميز عن سائر النصوص المعرفية؟ ولتجلية الامكانية الإبداعية، نحتاج إلى تقصي «مفهوم الأدبية» في التراث والمعاصرة، لنعرف أي الحزبين بلغ في التمييز بين سائر الأنواع القولية: المنضبطون أم المتفلتون الذين لم يصبروا على لأواء الفن ومتطلبات الإبداع. وفوق كل هذا: هل من واجبنا الإذعان لكل قول، والقبول بما يضفيه عليه المواطئون من صفات، دون الاحتكام إلى ضوابط الفن، ونظام اللغة، وموازين القيم؟.
وهل ممارسة هذا الحق المشروع يعد وصاية تقمع الحريات، وتسلب الحقوق؟ لقد ظهرت نغمة الوصاية والمزايدة والتحكمية، كاتهام لمن يحاول التصدي للترديات اللغوية والفنية والدلالية. وهي إطلاقات تخلصية تملصية، فالنقد حق مشروع للمتلقي: انطباعياً كان أو ذوقياً أو معرفياً، فنياً أو لغوياً أو دلالياً. والقائلون ب«الشعرية» و«الأدبية» يعرفون شرطهما المستخرج من النماذج المتطاولة مع الزمن، والمتداولة بين النقاد، والمصار إليها بالعفوية، دون تكلف أو تعمل.
ومثلما عرف «العصفور» كيف يبني عشاً في الشجر، عرف الشاعر كيف يبني قصيدته، وعرف السارد كيف يبني روايته أو قصته أو أقصوصته. وإذ لا نجد القول الفصل في نشأة اللغة، لا نجده عن نشأة الشعر على هذه الشاكلة، وبتلك الصفة. والحالة تمتد إلى الإبداع السردي. لقد فرق المتلقي بين القاص، والعالم، والمؤرخ، والفقيه، والواعظ، وعرف المذكرين والقصاص. فمن الذي علمهم ذلك؟إنها: الفطر، والمواهب، والأعراف. ولا عبرة بتعدد التقنيات السردية، ولا بالأنماط المختلفة، حتى بين أعمال الكاتب الواحد. وتمسكنا بضوابط التحول والثبات، لا يحيل رؤيتنا إلى لزوم نمط واحد، وتقنية واحدة، فالمسألة ليست عملة ورقية، لا تختلف إلا بالرقم، إننا نتصور الشعر والرواية والقصة على الرغم من التحول المستمر. ولا أتصور اجتماع طائفة من الناس للتواضع على مفهوم «الشعرية» أو «السردية»، وإذ تكون اللغة في نظري تعليماً وإلهاماً، تكون «الشاعرية» و«السردية» وسائرمفردات الفن إلهاماً وموهبة، ينميها الصقل، وتثريها الثقافة، وتفجرها المواقف. وإذ لا يقدر أحد على الإحالة إلى المواضعة، تكون المسألة الإبداعية إنتاج موهبةٍ كالغريزة. والقائلون ب«الأدبية» يعرفون شرطها، والعابثون الذين يتحللون من الشرط، يلغون «الشعرية» و«الأدبية» ولا يأتون ببديل يتوفر على قدر كاف لتحقيقهما على أي شكل، وإذا أسقطت دعوى الإصلاح عندهم لاذوا بمقتضيات الحرية، وحق التعبير، ووصفوا المتصدي لهم بالوصي والمرشد والمزايد والأصولي. ولقد يبلغ بهم التخلي عن الحضارة حداً يكونون فيه غربيين أكثر من الغرب، و«فرانكفونيين» مأجورين. وهذا الاستخذا للآخر، والتنمر على الأهل والعشيرة، يفوت على المشاهد كل فرص العلاج لهذه الترديات. و«الشعرية» و«الأدبية» من الثوابت التي لا يمكن القبول بالتخلي عنهما، تحت أي مبرر.

للحديث صلة

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved