Monday 17th march,2003 11127العدد الأثنين 14 ,محرم 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

استراحة داخل صومعة الفكر استراحة داخل صومعة الفكر
إضاءات محمد بن سعد المشعان 168 من القطع المتوسط

صديقنا الراحل يتميز بنكهة خاصة في شعره.. وبروح فكاهية ترقى أحياناً الى درجة الكاريكاتير الساخر في رباعياته.. إنه يكره الظلام والظلم. من هنا جاءت إضاءاته تحمل نفس المعنى.. ونفس التصور.. هذا ما أحسبه قبل أن تصفح ديوان شعره.. وقبل أن أحكم عليه أوله..
لأدع التخمين جانباً.. ولأنزع الى التوقعات الملموسة من خلال متابعتي لعطائه الشعري بداية من أولى محطات المسيرة..
لقد بدأ بنفسه كي يدلنا على حسه الذي هو شحنة قزحية مختلفة الألوان والمشارب: إنه يطالبنا جميعاً ألا نقرأه.. وكأنما يطالبنا ان نقرأه.. فالنفي أحيانا علامة الإثبات والثبات:


«لا تقرأن شعري .وما أحراكا
هو لوعتي فلربما أبكاكا
هو حيرة الإنسان حين ضياعه
هو أنة ما أوجعت لولاكا»

ترى من كان يعني بمناداته؟ إنه يشير إلينا جميعاً فنحن مصدر الشكوى.. وأكثر..


«لا تقرأن شعري فما سطرته
شكوى إليك لتسقط الأفلاكا!»

لماذا كل هذا؟! إنه يجيب في النهاية دون تردد:


«لكن رأيتك في الثرى مثل الثرى
فبكيت خوف تصيبني عدواكا»

نظرة ذات مذاق فلسفي تنزع الى لزوم ما لا يلزم رسمها المعري وترك لنا مشاهدتها في صمت.. ويفتح لنا شاعرنا الراحل بوابة سخريته في مقطوعته «حصاد الفراغ»


«أهدي إليك رفيق السوء «باروكا»
وقال في قحة الأوغاد مبروكا
فما أنفت. وهل أبقى الفراغ على
شيء لديك من التفكير يهديكا؟
فليت والدك المسكين ما كثرت
أمواله، وأقام الدهر صعلوكا
وليت أمّك لما أنجبت وضعت
ديكاً. وفخر لها أن أنجبت ديكا»

بهذه الريشة الساخرة رسم صورة الفراغ واسبابه ومسبباته.. الثراء. والاستكانة والاسترخاء.. وقتل الوقت دون عطاء.. وقتل الروح دون دماء.. إنه يعني طابوراً يحمل بطاقات هوية وهو لا يحمل هوى ولا هوية.. وفي جرأة يكون إيضاحه أكثر:


«وا أنَّتاه على تجريح أبياتي
إن حرَّف الشعر أرباب الكفاءات
صاغوا من «الصن» عزى بعد ما غربت
عزى. وأودت سيوف الحق باللات».

لقد شاب ليله في تنضيد عاطفته بعد أن نذر لها أغلى سويعات عمره.. بينما آخرون يقتلون وقتهم بالكنكان والبلوت والصن.. لعبة ورق يواكبها أرق ويطعمها قلق وتنتهي الى خسارة حتى لو ربحت.. وبقدر ما يكره الفراغ فإنه لا يطيق الثرثرة حتى ولو طلبها:


«إيه بنت الناس هيا ثرثري
خبريني عن هواك المزهر
ألفي ما شئت من قيسٍ وعن
خدر العشق وعهد «السهر»

يلحُّ عليها بمداعبة سمعه.. وفي النهاية لا شيء، لأن قلبه متحجر ومقفر ومغلق الأبواب أمام الثرثرة.
ومن يتعشق الفلسفة لابد له من مناجاة من يهوى.. وهل غير أبي العلاء المعري أب للفلسفة؟!


«قلتَ العيون النُجل تحت الثرى
فخفف الوطء لكي لا ترى
فرنَّ في أذني نداء الفنا
هرا - وربي - كل هذا هرا»

ماذا استوحاه من نداء الفناء ومنحه حق الاعتراض حتى على نظرية أستاذه؟!


«العين تحت الأرض لا تبصر
وأرجل الأموات لا تخطر
ما قلتَه - يا أيها الأشعر -
غراس وهم العقل لا يثمر»

لقد أعطى رأيه.. ومن حقه ما دام يملك تصورا مغايراً لتصور غيره.. تبقى الحقيقة لمن يتلمسها.. وله مع الصيف والنشء حكاية. وأي حكاية:


«ماذا لديك من التدبير دكتور؟
والصيف جربته.. والقيظ تنور
والنشء لا معهد يمتص فائضهم
من النشاط. وسحر الطيش مسجور..»

ان يتحدث عن مشكلة.. عن عارض مرضي زمني يستصرخ الدكتور ان يجد له حلا بعيدا عن الروتين القاتل الذي هرمت أمامه الشكوى كما لو أنه أرض بوار..
ومن الروتين الى حواء.. أو الى آدم دون حواء.. إنها بيت القصيد.. وبنت الفكرة:


«دار بلا حواء قفر بلقع
رجع الصدى في لابتيها مفزع
سيان فيها مقفر. أو مزهر
أو مجدب. أو مثمر. أو ممرع».

كلها سواسية بغياب حواء عن البيت لأنها ملكته..ومملكة دون ملكة يتيمة تقدم لها التعازي.. وأحسب ان قصيدته وليدة احساس موجع برحيل أم أولاده.. ومن البيت الموحش الى قلم المرور الأكثر وحشية:


«يوتيرن» يعرفها المرور وجنده
لكن جندي المرور تجاهلا
يمشي المخالف آمنا قدامه
والعسكري وقدر رأى ما قاله: لا».

وحصاد التسيب.. وضعف المسؤولية.. أحداث وحوادث.. وأرواح تزهق دون حساب أو عقاب..
لقد جرب المخالفة المرورية كمواطن لاثبات صدق دعواه:


«ولقد ركبت على ونيت سابح
رث الرفارف. مائل الصدام
كم من زحام خضت في أعماقه
حتى ظفرت بكل من قدامي
لا الضوء أحمر مانعي من هجمة
محمومة الكفين والأقدام
والعسكري؟ لقد عرفنا انه
عزت عليه قراءة الأرقام».

جانب آخر يطال المواطن.. امتهانه للنظام بعد ان أمن العقوبة فأساء الأدب والتصرف وتلك اشكالية ما زالت قائمة تعاني منها كبريات المدن.. والطرقات السريعة خارجها تحتاج الى مواجهة صارمة».
والسرعة وجندي المرور ليسا وحدهما مصدر الشكوى.. وإنما صوت منبه السيارة المزعج دون ضرورة:


«لا تزعجن الناس بالبوري
ما كل ما ترجو بميسور
أخال ان الصوت صاعقة
تهوي على سمعي بساطور»

رائع أنت يا شاعرنا الراحل وقد أوجزت فأنجزت.. وبلغت الرسالة لمن يهمه الأمر.. وعن فحش الاستهبال والاستغفال أمام تجربة شراء قليل من الطماطم لا أكثر ولا أقل يخاطب «الغاتي» قائلا:


«من قال ان الطماطا غير ناشئة
في هذه الدار في احدى القريات
هات الريالات ان الدار آمنة
كفى سعاراً. فأرجع لي ريالاتي»

وعن العنوسة وما أمرها وأقساها على نفس العانس يتحدث بلسانها وهي تخاطب أباها:


«ثلاثون عاما يا أبي قد بلغتها
ولم يلقني في مضجعي غير اشباح
ركبت حصان الصبر حتى سئمته
وكنت ظننت الصبر جسراً لأفراحي»

وتساءل والدها في قلق على المستقبل المجهول متى يأتي زائر الدار كي يهدىء من روعها ويهون من مخاوفها؟!
وتمتد بنا رحلة شاعر متمكن يملك قدرة ابداعية مرحة وساخرة.. مشكلتي معه ان محطاته لجمالها تفرض التوقف ولو للحظات نتزود منها معا بجماليات الصور وروح الدعابة لولا ضيق مساحة السفر.. وهو ما يفرض عليَّ قسراً إغماض عيني أمام الكثير من المحطات ايهاما بأنها غير موجودة رغم أنها جيدة وموجودة.
«نمطيات» و«أزمة ثقة» و«غضب الحليم» و«غرور» و«الى سعادة المدير» و«مدرسة» و«سقوط» و«نخلة عرجاء» كلها عبرتها في حزن عليها. وفي غيرة منها.. ليستوقفني موقف ضاحك كما هي العادة.. الحوار بين مواطن وبين سائق ونش المرور الذي حاول قنص سيارته وقد أوقفها في غير موقفها:


«القاه في اليم مكتوفا وهدده
بالونش ان لم يغادر دون ابطاء
قال المواطن في ذل ومسكنة:
الوقت ضاق وعض الجوع ابنائي
سأشتري بعض خبز رغم قلته
فلا تبادر الى صدي وايذائي..
سيارتي أصبحت غلا شقيت به
وبالمرور. كذا بالموقف النائي»

«المزدوج» مقطوعة تكشف ألاعيب المناقصات والترسيات أدع كشفها لفطنة القارىء ومثلها «بشر» و«ليس أقوالاً» وفي دنيا اللحم يتحدث عن القصاب وهو يبيع لحم الهرش الطاعنة في السن من الإبل بميزان مائل دون رقيب:


«ولحم اليوم اخفاف. ومصران. واعصاب
فلا الجزار ذو عدل ولا جرحاه قد تابوا»

من خياله لوحة وجدانية رومانسية استوقفتني لجمالها.. وحسن صياغتها:


«لعينيك علقت القوافي على بابي
ومن نفحات الزهر فصلت جلبابي
أريدك يا حواء عقلا وعفة
ونغمة أفراح ونفحة أطياب
أريدك أسفاراً من الشعر كلما
نظرت الى شطر تجاوزت أوصابي
فهل أنتِ وهم من خيالي صنعته
لأحفر في صخر التمني بأهدابي»

علامة استفهام ناقصة لا تنتقص أبداً من شفافيتها ونسيجها الحريري..
«الى الأثرياء» و«في المدرسة» و«انظر اليها» و«رجوع» تجاوزتها مرغما لنقف مع شاعرنا المجيد الراحل المشعان في حواره مع نصف عاقل!


«سألته: ما لديك اليوم من عمل؟
فقال: كناس قلت الناس كالناس
فقال: أخطأت فهمي. قلت: ويح أبي
لابد أني أصبت اليوم في راسي
هل الذي في يديك الآن مكنسة؟
وأنت كناس؟ أم طيف لكناس؟
فلم يجب.. وتوارى. آه من قلمي
أفي رباعية سجلت أفلاسي؟»

أبداً يا راحلنا الغالي سجلت نجاحك.. ورغم نجاحك اعتذرت خشية أن تكون خدشت شعور انسان يتكفل بأداء مهمة نترفع عنها رغم أننا نحن مصدر مشكلتها.. لا هو..
«استجهال.» سأتجاهلها.. و«الحكمة» ضالة المؤمن و«التسرع» اتينا عليه وعلى معاناته وأخطاره.. ووجهة نظر عرفناها مع شاعرنا وشاعره المعري وان اختلفت الصورة و«ذو الأسفار» كأنما كان يعزينا وهو يطاردنا ونطارده و«حمار جحا» ليس غريبا على واقعنا المعاش.. فأكثر من مسمار في أكثر من موقع ثبته الاستعمار كي لا نمتلك حرية التصرف والقرار.. ولأن الدرة تغري من تكون؟


«مخزون ثلاجتي ألقيته وكفى
لأنه يا رجال الكهربا تلفا»

اكتفي بهذا البيت لضيق الوقت.. وادع «المدينة العريضة» لأهلها وضجتها.. و«الثرثار». و«الحل». و«المقارنة» دون مقارنة لأن في الأمر «توارد خواطر»..


«إذا استعرت أمير الشعر قافية
فهل تطالبني شوقي بما استلبا؟
ريم على القاع - قد جزت قوائمه
من المطبات صارت تعشق الأدباء»

الدخلاء على دنيا الأدب.. أنهم فيروس اللاأدب.. وهم كثرة حين تعدهم ولكنهم عند الحساب قليل..
أحس ان قلمي ملَّ الاسقاط.. يتوقف واجتذبه كي لا يتوقف.. الحق معه والعذر معي وبين أحقية التوقف والاعتذار عنه اطوي الصفحات.. وأطوي معها رغبة مكبوته في ألا تنطوي.. آه من شيء تحبه ثم تحرم منه..
«فك رقبة» واحدة من تجليات شاعرنا لا يمكن طيها:


«ولي صاحب أضناه في الدهر همه
فقامت تواسيه. وترعاه أمه
وقالت له: اسرع الى العم خاطبا
فيا سعده من كان هذاك عمه»
وحين توالى الليل أسرع صاحبي
يقبل كفي عمه ويضمه
فلما رأى في الأمر أرضاً ودارة
وزخما من الآلاف أرداه غمه.

لم لا؟ وقد جاء المهر غاليا غاليا لا يقدر على دفعه ولا الدفاع عنه.! «فيض الألم» يعتصر جوانبه.. و«اليأس» ارفضه ولو كان شعراً.. «وفي المطار» انتظار.. والانتظار أشد من القتل. والأماني كثيرا ما تتحول الى سراب وخدعة.. أشبه بالسياسة التي تغريه.. وقد تغري غيره:


«مهلاً اتنصحني. أم أنت تغويني؟
هل السياسة أمر ليس يعنيني؟!
أريد عفوك. ان الأمر ذو شعب
ولي مجال اذا أقصرت يكفيني
فلي مع الفجل والكراث معركة!
ولي ميول الى البطيخ، والتين!
الفعل - ساس - وقد أرضى به لغة
له رجال. ولكن ليس يغريني..»

حسن الابتعاد عن صداع الرأس.. وبالذات في زمن كل شيء فيه مسيّس.. أو خاضع لمصلحة السياسة.. حتى الزواج له فلسفة عوراء في عيني الشاعر وهو يتحدث عن مبتعث أبدل غريبة على قريبة كانت في انتظار عودته:


«ولقد قالت لجارات لها
فارس الأحلام أهدانا مصيبهْ
طار باسم العلم عن أوطانه
ونأى عن والديه. والخطيبهْ
سنوات عشرٌ ابلى ثوبها
وهي أبلت فيه أخلاق العروبه
عاد موفور الجوى أودت به
سنوات الأسر في عيني «غريبهْ»

ولشاعرنا وعظ مختلف: هكذا يتصوره بلسان غيره:


«وقائل قال فخرا.. إنه زيرُ
فقيل: بل أنت ما لم ترتدع زيرو

الزير الأول زيرماء.. أما الثاني فيعني الصفر باللغة الانجليزية.. والزيران يعنيان الجناس في لغتنا العربية.. واختتم على كره رحلتي مع شاعر لم يأخذ حقه من الذيوع.. كما لم يأخذ شعره حقه من الدراسة.. كما لم يأخذ هو نفسه ما هو جدير به من تكريم رغم تفرده بشاعرية ابداعية تجمع بين الفكرة.. والمقدرة على الطرح في اطار تمتزج فيه نكهة الفلسفة.. ورائحة السخرية.. ومذاق الدعابة.. اختتم مع شاعرنا الراحل المبدع محمد المشعان بلوحة بانورامية انسانية خطوطها رمادية الموت.. «بأي ذنب قتلت؟!


«وأدتني يا أبي في كهف انسان
أما خشيت عقاب الله في شاني
أتى ابن سبعين والآلاف تسبقه
اليك ترسم في ناديك احزاني
فجز قلبي أني في يدي ابتي
رأيت ثوب زفافي. وهو أكفاني...

* الرياض ص.ب231185 الرمز 11321

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved