سيادة الرئيس:
بعد السلام والوئام:
فإني مخبرك عن نفسك، ومظهر لك سريرتك، ومُعّلمك بحالتك التي أنت عليها لدينا: فإنك قدمت أرضنا وبلادنا لترعى معنا مصالح مشتركة، فتسرّ بها بلادك، وتسّر بها إدارتك. وكان قدومك أو وجودك بفهم مشترك خلا من أي معترك. ولماّ رأينا أناتك وحسن صبرك، ومواظبتك على طلب حاجتك، والتحفظ من أن يسقط منك الكلام، مع طول مكثك عندنا، بشيء يستدلّ به على سريرتك وأمورك، ازددنا رغبة في صداقتك، وثقة بعقلك، فأحببنا مقاربتك.. {وّلّتّجٌدّنَّ أّقًرّبّهٍم مَّوّدَّةْ لٌَلَّذٌينّ آمّنٍوا الذٌينّ قّالٍوا إنَّا نّصّارّى"} فلمرامنا لم نرَ في رؤساء الدول «الصديقة» رئيساً هو أقرب لنا منك فهماً، ولا أحسن تواضعاً، ولا أصبر على الخلاف ولا أكتم لسرّه منك، وإننا لنعرف وإياكم أن عقل واقتدار الرجل المسؤول ليبين في ثماني خصال: الأولى الرفق الذي ما كان في شيء إلا زانه ولا نُزع من شيء إلا شانه، والثانية أن يعرف الرجل المسؤول نفسه فيحفظها، والثالثة فهم الذات والآخر، والتحري للرضا دون السخط، والرابعة معرفة الرجل المسؤول موضع سره، وكيف ينبغي أن يطلع عليه صديقه. والخامسة أن يكون على أبواب عمله ومسؤوليته أديباً متودداً ملق اللسان. والسادسة أن يكون لسره وسر غيره حافظاً، والسابعة أن يكون على لسانه قادراً، فلا يتكلم إلا بمن يأمن تبعته. والثامنة إن كان بالمحفل لا يتكلم إلا بما يسأل عنه. فمن اجتمعت فيه هذه الخصال كان هو الداعي الخير إلى نفسه، وبروح الإسلام والسلام نتعشم يا سيادة الرئيس أن هذه الخصال سمة لنهج رئاستك، اجتمعت فيك، وبانت لنا منك، ولا غرو فأنت حاكم لقطب أوحد، ينشد العدل والوئام الدوليين ما أوتي إلى ذلك سبيلا. فالدعاء لك منا بالعون، والعمل على استخدام ما رزقكم الله إياه من النعم العظيمة في سبيل الخيرات والأعمال الصالحات، فمصادقتك إيانا، وإن كانت دائرتها في خضم الماديات والمصلحيات، لم تُفقدنا هويتنا وإسلامنا وقيمنا قط، وتلكم هي الروح الإنسانية السمحة الجليلة التي ينبغي أن تسود في عالم اليوم.
سيادة الرئيس:
قرن مضى.. قرن اضطراب وهلع.. حروب أهلية وحروب اقليمية وحروب عالمية، فقد مضى القرن القريب المنصرم إلا أقله على البشرية جمعاء وهم في حروب وكروب بين أسواء وقتن، عَدَت على كثير من شعوبه ودوله عوادي الشر فتنازعوا القوة، ونهضت فيهم فتن ذهبت بخيارهم وعصفت بمقدّراتهم، ثم جاء هذا القرن الجديد الذي ما زلنا نحتفي بقدومه، فما كاد الناس يهدأون ويطمئنون ويريحون ويستريحون حتى انقبض عنهم ظلها بتعقيدات السياسة «العولمية» المعاصرة وتداخلاتها، وجد الناس أنفسهم محاصرين بعلامات استفهام غاية في التعقيد، وربما يستحيل فهمها وهضمها، التفجيرات الأخيرة التي هزّت قوتكم العظمى في مدينتي نيويورك وواشنطن أصابتكم بارتجاج نفسي عنيف لم تستطيعوا معه إدراكاً نيّراً لخوافيها ومراميها وأبعادها. وموقفنا الرافض لما حدث، كان مستمداً من تعاليم إسلامية إنسانية سامية، أدانت بشدة قتل وإزهاق الأرواح دون وجه حق، ولكننا يا سيادة الرئيس جرحنا في عقيدتنا وأهنّا في كرامتنا عندما جُعل الإسلام شماعة عُلّقت عليها أعمال الإرهاب!! وتبعاً لذلك أصبح الحجاب واللباس والملامح الشرق أوسطية، شرارة تشعل بوادر الشك والحقد في نفوس العالم الغربي والأمريكي بالذات فحدثت مضايقات ونعرات واتهامات وتوقيفات وتهديدات بالقتل في صفوف المسلمين المغتربين في الخارج، نتألم نحن عند ما تشير الأنامل والتوجسات إلى الإسلام كدين أو كدولة لمجرد وقوع أي أعمال عنف، ومكمن الألم ليس فقط لبراءة المقتولين، بل وأيضاً لأن العالم لم يُدرك حقيقة هذا الدين، ولم يطلع على المعاني السامية التي حملها للإنسانية، أعظم آية قرآنية تحمل فحوى الرسالة الإسلامية والنبوية تقول: {وّمّا أّرًسّلًنّاكّ إلاَّ رّحًمّةْ لٌَلًعّالّمٌينّ} الإسلام يا سيادة الرئيس ليس مسخاً يُيتِّم الأطفال، ويرمِّل النساء، ويرّوع الآمنين، وليس من مسلم حصيف عاقل يعتبر هذه الأمور والتصرفات الغوغائية جهاداً أو عزّة أو شرفاً أو شهادة. الإسلام جدّ براء من اعتبار هدم الناطحات والمباني على رؤوس أصحابها المدنيين عملاً بطولياً؟! الإسلام لا يُفتي مطلقا بوجوب الجهاد ضد دول بيننا وبينها عهود ومواثيق، ومذكرات سلام وتفاهم؟! لم نسمع ياسيادة الرئيس في إسلامنا يوماً أن نبي الهدى والرحمة محمداً صلى الله عليه وسلم أغار على شعب أو قبيلة غدراً، أو نادى بقتل أبرياء في أيقونة نداء الجهاد؟! بل كان الرسول الأعظم مثالاً إنسانياً نادراً في احترام المواثيق والعقود، وضرب بعدله ورحمته أروع الأمثلة في أخلاقيات القتال: لا تقتلوا طفلاً، ولا تقتلوا امرأة، ولا تقتلوا شيخاً، ولا تقطعوا شجراً، وستجدون اقواما في صوامعهم؛ فاتركوهم وما يعبدون، إن ثمن التفجير يا سيادة الرئيس لا ينبغي أن يكون الإسلام، ولا المسلمين، ولا دولة أفغانستان، وما ينبغي فعله هو «محاسبة الذات» من منظور إحقاق الحق وإزهاق الباطل ما استطعتم إلى ذلك سبيلا. نحن نعلم أن حرب الإسلام الحقيقية موجهة في الأساس إلى الدولة الإسرائيلية مباشرة التي احتلت أرضنا، وشردت شعبنا، وصادرت حلمنا في الحياة الكريمة، وليست إلى الدول التي «ساعدتها» في بغيها وظلمها، فمن حقنا يا سيادة الرئيس الدفاع عن أنفسنا في قضيتنا هذه دون حلم أو دعم طال انتظارهما من الآخرين، نحن قوة ينقصها فقط من يوحدها..، وسنفعل. إن ما يجري من مجازر في فلسطين بتأييد ضمني أمريكي.. وما يتعرض له المدنيون والأبرياء في أفغانستان لهو العداء والوجه الحقيقي للإرهاب. ولا يشك بيت عربي وإسلامي واحد في أن إسرائيل دولة إرهابية نشأت على إحقاق الباطل وإزهاق الحق.. وهي التي بالفعل تستحق لأفعالها الإجرامية والوحشية أضعاف ما تتعرض له أفغانستان اليوم من قصف وتدمير وحصار ومهما يكن يا سيادة الرئيس فإن الموقف الثابت والدائم لروح الإسلام وللعرب ولعموم المسلمين، يستند بلا أدنى شك على إدانة ومكافحة الإرهاب أيا كانت دوافعه وصوره ومراميه، ويؤيد وحدة الشمل من خلال تحرك جماعي مدروس لمواجهة شبكات وعناصر الإرهاب وتجميد مصادر التمويل المرتبطة بها ومعالجة أسبابها واحتواء آثارها. وليس أدلّ على هذا الموقف من الواقع العملي ما تم التوصل إليه في المجال العربي من التوقيع بالإجماع على «الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب» من قبل جميع وزراء الداخلية ووزراء العدل لجميع الدول العربية، وكذلك موقف منظمة المؤتمر الإسلامي المعلن والثابت في بياناتها الرسمية بمناهضة جميع أشكال العنف وصور الإرهاب، بالإضافة إلى المناشدة المستمرة لهذه الدول للمجتمع الدولي ولهيئة الأمم المتحدة من أجل أن يكون هناك موقف دولي عادل وموحد من الإرهاب، إذاً مسألة الإرهاب والموقف العربي والإسلامي منها واضح وصريح، فكيف والحالة هذه توجيه الاتهام لهذه الأمة التي هي «خير أمة» بالإرهاب أو العنف اللامسؤول. إنه لأمر مرفوض بالكامل أن يكون هناك ثُلة قليلة مارقة عن الإجماع أو قد يكون مغرراً بها من جهات معادية للعرب والمسلمين ثم ينسحب عملها الإرهابي على اتهام أمة بأكملها بالعداء والإجرام. إن أخلاقنا العربية والإسلامية تؤكد {أّلاَّ تّزٌرٍ وّازٌرّةِ وٌزًرّ أٍخًرّى"} فالعمل اللامسؤول ينبغي أن يحصر اتهامه بمن فعله وارتكبه.
سيادة الرئيس:
إن الأهم حالياً، تحويل التحالف القائم المناهض للإرهاب الى تحالف يعمل لصالح تحقيق نظام دولي عادل، وإذا ما اقتصرت المعركة ضد الإرهاب على العمليات العسكرية فإن العالم سيواجه الفشل، كما سيكون من الخطأ الفاحش استغلال هذه المعركة لغرض السيطرة على دول أو أقاليم، إذ إن ذلك سوف يُذيب التحالف ويدكّ مصداقيته ويلغي بالكلية مفهوم أو إمكانية تحويله إلى آلية قوية لبناء عالم يسوده السلام، وإذا كان ولابد من استخدام العمليات العسكرية فينبغي أن تكون وقائية محدودة وموجهة توجيهاً صحيحاً لأهدافها في نطاق المظلة الدولية للأمم المتحدة، وتكون أيضاً جزءاً مكملاً لجهود مشتركة لبناء نظام عالمي أكثر عدالة يحقق الخير للجميع، هذا بالإضافة إلى أهمية الإصغاء والإنصات الجاد للأصوات المحذرة من العواقب الوخيمة للعولمة وأثرها على مئات الملايين من البشر، فالعولمة وإن لم يكن ممكناً إيقافها إلا أن من الحكمة جعلها أكثر إنسانية وأكثر توازناً تجاه المتضررين.
سيادة الرئيس:
وأخيراً، فإن الإسلام في مجمله ينظر إلى الإنسان على أنه خليفة الله في الأرض، وقد فضل الله الإنسان وكرّمه على سائر مخلوقاته، وهذه الكرامة تعني في النهاية الحرية الواعية المسؤولة التي تدرك أهمية تحمّلها أمانة التكليف والمسؤولية. وإذا كان الله قد اختص الإنسان بالتكريم، وجعله مكلفاً ومسؤولاً، فإنه من ناحية أخرى قد خلق الله له هذا الكون ليمارس فيه نشاطاته المادية والروحية وليتخذ لنفسه منه موقفاً إيجابياً يُسهم في تعظيم الاستفادة من كل المسخرات في هذا الكون بالعلم، والدراسة، والفهم، وبذلك تعمل الحضارة الإسلامية بجد على عمارة الأرض، وترقية الحياة على ظهرها: إنسانياً وخلقياً وعلميا وأدبياً ودينياً واجتماعياً وفق قيم الإنسان المقررة في شريعة الله، أي الارتقاء صُعداً بالخصائص الإنسانية وحمايتها من الانتكاس الى الحيوانية التي تؤدي إلى التخلف، وإذا كان هذا مفهوم الحضارة الإسلامية فإن التخلف الحقيقي في مفهوم المجتمع الإسلامي المتحضر هو تحويل منجزات العلم الهائلة إلى قوى باغية للتدمير والتسلط، وتسخير إمكانيات العلم غير المحدودة في نشر الفوضى والفتن والمفاسد الخلقية بدلاً من استخدامها في إعلاء القيم الإنسانية وفي خدمة الإنسان دون بغي أو ظلم أو تحكم أو إبادة. لقد اعتبرت الأمم المتحدة عام (2001م) هو عام (حوار الحضارات)، تعبيراً عن آمال وتطلعات الشعوب والدول في التعايش السلمي وفق مبدأ «الحوار» بدلاً من مفهوم «الصراع»، خاصة في هذا العصر الذي شهد، ولا يزال، تحولات خطيرة وعداءات كثيرة وعدم ثقة بين أطراف العالم المختلفة. إن التقاء حضارات الأمم وتفاعلها هو قدر لا سبيل إلى مغالبته أو تجنبه، ذلك أن الانغلاق الحضاري قاتل للإنسان، والتبعية الحضارية هي الأخرى قاتلة لكل إبداع، فالالتقاء إذاً ضرورة إنسانية لابد منها لقيام الحضارات، وتقدم الإنسان في كل ما من شأنه أن يأخذ بيد الإنسان، ويشيع في المجتمعات الإنسانية السلام والأمن والاستقرار، ولابد لكل حضارة أن تراعي الخصوصية الحضارية للأخرى.. فلا تكون في غربة عن ماضيها ولا تكون في بعد عن واقعها المعاصر.. حماية من حدوث فجوات حضارية كبرى يصعب تجاوزها، إن من حق الأمة الإسلامية أن تتطلع إلى مستقبل مشرق، ولابد لها أن تخوض معركة بناء الذات وتجديدها في إطار رصيدها الضخم من القيم الإنسانية المستنيرة الكفيلة بأن تجعل هذه الأمة في وضع يسمح لها بأن تنمي فلسفتها الحضارية، وتنفتح على الحضارات الأخرى، تأخذ منها وتعطي، وتتعاضد مع أمم الأرض في بناء حضارة إنسانية. وإن الوجود الإسلامي الحالي في العالم الغربي والمصالح المشتركة له مع العالم الإسلامي، دليل حيوي ناصع على أهمية التعاون والتعايش السلمي مما يُسهم في إنجاح حوار الحضارات.. والوصول المشترك إلى عالم آمن مستقر يقوم على الوفاق والوئام والاحترام المتبادل للخصوصيات الحضارية المختلفة. آملين أن نُردّ إلى الصواب رداً جميلاً.
والسلام للجميع.
* مدير مشروع اللجنة الوزارية للتنظيم الإداري وعضو هيئة التدريس بمعهد الإدارة العامة
|