في تلك اللحظة التي وصل فيها الرئيس الفرنسي «شيراك» إلى الجزائر حاملاً معه الخاتم المسروق من حاكم الجزائر عام 1830م وسلمه للرئيس الجزائري «بوتفليقة» عرفت السر الذي دعا النقاد إلى الوقوف طويلاً أمام بيت أبي الطيب المتنبي:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها
وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
|
وهو يستمد طلاسمه من رمزين في هذا البيت:
أحدهما: التراب الذي يرمز لقداسة الأوطان، ولذلك استبشر المسلمون لما حمل كسرى ربعي بن عامر حفنة من تراب فارس بفتحها في معركة القادسية، ومن ذلك التاريخ أصدرت الدول المتمدنة قانوناً يمنع جلب التراب إليها والخروج به إيمانا منها بضرورة الحفاظ على الخصائص والتضاريس حتى وإن كان ذلك التراب سارقاً للإنسان ابتداء من خاتمه وانتهاء بجده إلا انه يبقى عزيزاً تحت أي سماء وفوق أي أرض، ولا أعرف أحداً سبق الشاعر الفلسطيني محمود درويش عندما أطلق على نفسه «مجنون التراب» رمزاً لحب لا ينتهي ومفقود لا يعود.
والآخر: الخاتم الذي يحمل فصا نفيساً يستحق الوقوف والبحث، أو مناسبة عزيزة على صاحبه، وبالتالي لا يحق لأبي الطيب ذلك الإنسان الطموح ان يصف من يبحث عن خاتمه بالبخل والشح، لأن خاتماً يدفع الجزائريون مقابله مليون قتيل لا يستحق النسيان ولو كان من خشب مؤكدين ان الأشياء بقيمتها المعنوية، فالأوطان التي تطلب خاتماً هي الأوطان التي تطلب رفاة مواطنيها الذين تحللت أجسادهم في تراب الآخر، ومازلت أذكر أول شرط إسرائيلي من شروط الصلح مع سوريا ان يعاد رفاة الجاسوس الإسرائيلي الذي أعدمته الحكومة السورية «ايلي كوهين» قبل ثلاثين سنة تقريباً.
ولا يخفى على عربي شاهد تفاصيل مؤتمر القمة العربية قبل أيام في شرم الشيخ ذلك الارتباك الذي سببه الخاتم المسروق للرئيس الجزائري الذي بدا مضطرباً في المؤتمر حتى انه اخطأ باسم رئيس المؤتمر الملك حمد بن عيسى آل خليفة فنسبه إلى آل ثاني القطريين، وحق له الارتباك والاضطراب واعتذر عن تكملة المؤتمر بسبب الزيارة الفرنسية التي يحضر في كنفها ذلك الخاتم المسروق.فلماذا اختار الرئيس الفرنسي هذا الوقت لإعادته؟
وهل لتداعيات الأزمة الأمريكية العراقية أسباب في عودته الآن؟
وهل يريد الرئيس شيراك ان يعطي درساً للآخرين في الاعتذار عن أخطاء الماضي حتى يكفوا عن ارتكاب الأخطاء في المستقبل؟
وبكل تأكيد انها رسالة لم تُفهم من شعب يحمل نشيده الوطني «المارسليز» في طياته آلاماً وجراحاً بسبب الاجتياح الألماني النازي لباريس، وتستقر في متحفه الوطني ذكريات تلك الحقبة المظلمة من بنادق ووثائق وأوسمة ونياشين وتماثيل وطنية تؤمن بأن أول عمل يجب ان يفعله الرئيس ديجول بعد التحرير القاء قصيدة الحرية لبول ايلوار من الطائرات على باريس التي أرسلت شيراك ذلك الملازم في المرة الأولى غازياً للجزائر وتستقبله جميلة بوحيرد ورفاتها بالمقاومة والاستبسال وترسله اليوم رئيساً يستقبله الشعب الجزائري بالتصفيق والزغاريد والورود والرايات الملونة التي أثبتت مع الأيام ان الحرية قد لا تكون حمراء وان الاستسلام قد لا يكون بالرايات البيضاء أيضاً.لا أدري لماذا أشعر بالحزن العميق كلما تذكرت قسنطينة تلك المدينة الجزائرية التي جسدت مقاومتها الاحتلال الفرنسي الكاتبة احلام مستغانمي في رواية ذاكرة الجسد وفيها رسالة: «اكتب إليك من مدينة مازالت تشبهك وأصبحت أشبهها، مازالت الطيور تعبر هذه الجسور على عجل، وأنا أصبحت جسراً آخر معلقاً هنا..
ها هي ذي قسنطينة وها هو كل شيء وها أنت تدخلين إليَّ من النافذة نفسها التي سبق ان دخلت منها منذ سنوات مع صوت المآذن نفسه، وصوت الباعة، وخطى النساء الملتحفات بالسواد والأغاني القديمة من مذياع لا يتعب.. تضعني وجهاً لوجه مع الوطن، تذكرني دون مجال للشك بأنني في مدينة عربية، فتبدو السنوات التي قضيتها في باريس حلماً خرافياً يا امرأة كساها حنيني جنونا، وإذا بها تأخذ تدريجياً ملامح مدنية وتضاريس وطن وإذا بي اسكنها في غفلة من الزمن وكأنني أسكن غرف ذاكرتي المغلقة من سنين.. ها هي قسطنطينية باردة الأطراف محمومة الشفاه مجنونة الأطوار، ها هي ذي.. كم تشبهينها اليوم أيضاً لو تدرين، دعيني أغلق النافذة».
ومدينة وهران الجزائرية التي جرت أحداث رواية الطاعون للكاتب العالمي البير كامو في جنباتها «وحتى الآن كان الطاعون قد خلف من الضحايا في الأحياء الخارجية الأوفر سكانا والأقل عمرانا، عدداً أكبر مما خلفه في وسط المدينة، ولكنه بدا فجأة يقترب من الأحياء التجارية أيضاً ثم يقيم فيها، وكان السكان يتهمون الريح بحمل جراثيم العدوى، وكان مدير الفندق يقول إن الريح تخلط الأوراق، ومهما يكن من أمر، فقد كانت أحياء الوسط تعرف ان دورها قد أتى، إذ كانت تسمع بالقرب منها أجراس سيارات الاسعاف التي كانت تدق تحت نوافذها نداء الطاعون الكئيب».
أتذكر كل ذلك الألم والتضحية والشموخ والمقاومة، وأقارنه بحكايات الحرب الأهلية التي أفسدت نضال ذلك الوطن تحت مبادئ فاسدة يغذيها التطرف والارهاب، ذلك الوطن الذي أكد أهمية احترام ضيف اليوم على الطريقة الحاتمية عندما طرق الباب واستأذن بالدخول في حين انه لم يتردد في مقاومة الغازي وطرد المستعمر والطارئ من ترابه بالأمس على الطريقة الجزائرية الاستثنائية عندما خلع الباب ورفس الكرامة برجليه وبندقيته.نعم إن الفرنسيين اعطوا الآخر الذي سرقنا وسرق تراثنا ومخطوطاتنا وكرامتنا منذ قرون درساً في فن الاعتذار وفتحوا الباب على مصراعيه لإعادة كنوزنا المسروقة على الطريقة الفرنسية التي تؤكد ان الفرنسيين هم أقل الأمم عنصرية، وان كانوا قد انتجوا غوبينوا فهم الذين ألغوا الرق وحرروا العبيد، وتحمسوا من أجل العدالة في قضية دريفوس أكثر من حماس أمريكا في قضية روزنبرغ، وهم رواد الحضارة الحديثة في ثوراتهم المعروفة التي قام العالم على مبادئها وهم الذين نجحوا في اعتمادهم على الثقافة واللغة في وطنيتهم لا على العرق الآري أو السامي أو الدم الأزرق أو اللون الأبيض والشعر الأسود، بينما الثوار في عالمنا الشرقي يقودون شعوبهم إلى التخلف والتسلط والمصادرة وليتهم كانوا في هذا الوقت على مستوى يشبه إلى حد ما مستوى الثائر جيفارا الذي ترك كوبا لكاسترو لما رأى منه ما يزعجه وكتب له رسالة يعتذر فيها لكوبا وشعبها ليموت بعيداً في بوليفيا ضاربا أروع الأمثلة في الاخلاص الوطني عندما يكون الرحيل حلاً لكوبا في ظروف تقل كثيراً عن ظروفنا هذه الأيام..
إنهم شرعوا في وضع نهاية لقضايا استعمار الشعوب، وأسهموا في مساعدة الدول النامية أكثر من الآخرين وعلى الرغم من الخطأ الفادح في التهدد بالتدخل العسكري في أثناء أحداث الجزائر بعد الانتخابات إلا ان الاعتذار بإعادة الخاتم المسروق عمل يستحق الثناء من الإنسانية، لأن ذلك التصرف الإنساني يليق بفرنسا ديجول التي وقع فيها أكثر من مائة وعشرين مثقفاً بيانهم الشهير الذي طالبوا به الجنرال ديجول بالخروج من الجزائر وخلا فيها دكان ذلك الاسكافي الفرنسي من بساطيل الجنود والنياشين احتجاجاً على الحرب القذرة بأبسط تعبير إنساني يؤمن بضرورة استمرار الحياة على ظهر هذا الكوكب مثلما آمن روجيه جارودي المفكر المعروف بالإسلام بعد حادثة أسره في الجزائر، إذ روى في كتابه حوار الحضارات كيف رفض الجزائريون اطلاق النار عليه، لأنه أسير.. وأضاف قائلاً: «إن ديناً به مثل هذه المناقب يستحق ان يعتنقه الآخرون».
فشكراً فرنسا لأنها سرقت الخاتم دون بتر الأصابع من جسد الضحية.
والله من وراء القصد
الإمارات العربية المتحدة
|