نحن لا نجيد التعبير عن أنفسنا. الإعلام في هذا العصر صناعة، ونحن لا نجيدها، هذه حقيقة. فلقد توارت صورتنا الحقيقية بسبب هذا «الخفر» الإعلامي، وأصبح ما لدينا مما يجب أن يقال للناس في الداخل والخارج، ضحية لهذا «الحياء الاعلامي» وهو ما ألَّب علينا كثيراً من وسائل الاعلام، وجعلها تتمادى في الحديث عنا إن حقاً أو باطلاً، بل لقد أصبحنا مادة إعلامية، وهاجساً للابتزاز، فما يسكت عنه اعلامنا يستثمره الاعلام الخارجي، ويلوك فيه. والسبب أن توجه الإعلام لدينا طيلة سنواته وحتى الآن، توجه رسمي، يتوشح بالتعاليم الدبلوماسية، أكثر من التصريح المباشر، فضلاً عن أن التوجه الرسمي، يعتبر وجهة نظر رسمية يتردد المتلقي في قبوله. وفي ظل هذا الفهم للإعلام، أصبح المسؤول الاعلامي، رسمياً أكثر من الرسميين.
وفي اطار هذه الممارسة للإعلام، تتأثر الصحافة السعودية الصادرة من الداخل، بهذه التبعات، فأصبحت صحفاً لا يقبل عليها القارئ ولا يثق بها، بينما تصدر صحف من الخارج، تعتبر صحفاً سعودية يعتبرها القارئ مصدراً اعلامياً ويقبل عليها، وفي نظر المشرع الإعلامي أن تلك صحفاً تصدر من الخارج، يسمح بتداولها في الداخل وفق قانون الرقابة. وفي الواقع فإن ما يجده القارئ في تلك الصحف مسموح به لا يجده في صحف الداخل. والمسألة في النهاية، لا تتعلق بحرفية المهنة، كما يتبادر إلى ذهن القارئ، فالصحفيون الذين يديرون تلك الصحف الخارجية، تتلمذوا وتربوا في كنف صحف الداخل ولمعوا فيها، لكنهم حلقوا في فضاء أرحب، حيث وجدوه، بينما زملاؤهم في الداخل تحكمهم «دبلوماسية الصحافة المحلية».
لقد أردت أن يكون هذا المدخل مقدمة، لطرح عدة تساؤلات حول المسألة الإعلامية، باعتبارها خط الدفاع الأول، لما يواجهنا من هجمات يشتد أوارها هذه الأيام. وفي ظل التوجه الوطني لمواجهة التحديات، والبحث عن سبل لطرح رؤية مستقبلية للوطن.
وللتدليل على التوجهات الايجابية، في إماطة اللثام عن التقيد الاعلامي، ما تم منذ سنوات فيما يتعلق باجتماعات مجلس الوزراء - وهو السلطة التشريعية العليا في الدولة - ففيما مضى كان خبر انعقاد المجلس مجرد خبر، عن انعقاد المجلس وأنه اتخذ القرارات المناسبة، وناقش الأعمال المدرجة على جداول الأعمال. فقد أميط اللثام وأتيح للمواطنين ان يتابعوا نشرة أخبار يوم الاثنين ليتعرفوا على مناقشة المجلس، وهي خطوة على الطريق الصحيح. اطلاع الأمة على قرارات السلطة العليا في البلاد. بينما لا يزال اللثام لم يمط حيال المناقشات والمباحثات السياسية التي تعقد أوقات الأزمات الحرجة، فبينما يتعرف المواطنون على ما دار في تلك المباحثات من مصادر إعلام الطرف الآخر في تلك المباحثات، تغيب أو تُغَيَّب في مصادر إعلامنا، مما يجعله إعلاماً مهمشاً، بالقطع يعرف المواطن أن هناك أموراً لا يجب التصريح بها تكمن في اطار السرية المتبادلة بين الأطراف الدولية، مما يقع تحت مسمى الوثائق السرية.. وعادة تكشف الدول عن هذه الوثائق بعد ثلاثين أو خمسين سنة. وطالما أن المواطن يتصيد تلك الأخبار في مصادر الاعلام الخارجي، ثم يجتهد في تفسيرها، أو يتلقاها وفق وجهة النظر الأخرى. فلماذا لا تكون مصادر اعلامنا هي البادئة في التصريح والنشر، ويتذمر الناس مثلاً عندما يقال أو يستقيل موظف من أصحاب الرتب العليا من منصبه، فيترك للناس ولبراعة مصادر ووسائل الاعلام في الخارج الاجتهادات لتعليل ذلك، لماذا نترك فلاسفة تفسير الأحداث ينهشون كبرياء هذه الأمة. لماذا يتجرأ أحدهم أن يقول إن «وزارة المياه» هي «وزارة الهواء» في سخرية مريرة. وهذا الذي ينتقص من حق المشرع وصاحب القرار ومن حق البلاد ان يكون فيها وزارة للمياه، وأن يعين لها وزير مشهود له بنجاحات متميزة في كل مواقع العمل التي تسنمها. ألم تكن مساحة بلادنا بحاجة إلى وزارة للمياه، تخطط وتبحث عن مصادر للمياه فيها. هل لابد أن يكون في بلادنا نهر «وترع» حتى يسمح لنا بإنشاء وزارة للري والمصادر المائية. أليس في بلادنا مزارع ومصادر طبيعية للمياه وأودية. الناس في بلادنا يشربون الماء على الأقل وهو في بلادنا الصحراوية عزيز، لتر الماء أغلى من لتر البنزين. إذاً يكمن الخطأ في التوجه الاعلامي والصمت عن القرارات حتى اعلانها فجأة.. أليس من الممكن التمهيد لذلك، واعلان الناس بأن هناك وزارة سوف تُنشأ، اسمها وزارة المياه. لقد استحال في أذهان المحللين والمترصدين لنا، أن الأمر كما لو كان أن لدى الحكومة، موظفاً مهماً بدرجة وزير أرادت أن تنقله من منصبه إلى منصب آخر، وأنها استحدثت له وزارة، يا للهول من هذا التفسير والمطب، الذي أوقعنا فيه حُسن التصرف في اعلان القرارات وتوقيتها المهم لقد أعطى هذا الموقف فرصة مهمة وسانحة، لواحد من أبرز المحللين السياسيين العرب، لكي ينتقدنا، ويذهب إلى أبعد مدى، فيربط بين هذا الموضوع وما يجري على الساحة الدولية السياسية من متغيرات، وعلى هذا النموذج يتم القياس لكثير من الأمور فيما يتعلق بسياسة الاعلام وصناعته.
إن التكتم والخفر والحياء والحذر الذي يتسم به الاعلام في بلادنا. أصبح مادة لمصادر اعلامية خارجية، ترتع وتتكهن، فيما يغيب عنه اعلامنا، المفترض انه المصدر الأساسي لمجريات الحياة السياسية والاجتماعية والقرارات المتخذة بشأنها، فيسد على هؤلاء النافذة التي يطلون منها ويتلصصون على مصادر اخبارنا، وينقلونها وفق اجتهاداتهم واجتهاد مصادرهم. ألم يكن من رد الاعتبار للصحافة والصحافيين في بلادنا أن يكونوا المصادر الأساسية الأصلية لكل ما يصدر في بلادنا من أخبار وقرارات.
من تجاربي الشخصية الصحفية، وقد أتيح لي مرافقة جلالة الملك خالد - رحمه الله - في رحلات إلى خارج البلاد، ضمن الوفد الصحفي المرافق، لم أظفر خلال تلك الرحلات بزاد صحفي أنا وغيري من ممثلي الصحافة المحلية. بينما كانت صحف وصحفيو تلك البلدان ينفردون بمادة صحفية يقرأها الناس في بلادهم وبلادنا. فلماذا لا يتاح للصحفيين مصادر اخبارهم من مسؤولي بلادهم الذين يرافقونهم. وإلا فلماذا يرافقونهم وهذا ينسحب على الوكالة الرسمية للأخبار. لماذا يترفع المسؤولون عن الادلاء بتصريحاتهم، واعطائهم السبق الصحفي. هل زامر الحي لا يُطرب؟!
إن مصادر الاعلام في أي بلد في الدنيا، هي الوسيلة الأولى للتقريب بين هاجس الدولة ممثلة في أعلى سلطة وبين مواطني الدولة. وأن الأمر يتعاظم الآن في عصر تتعدد فيه وسائط المعلومات، التي بدأت تتسلل إلى مخادع الناس في غرف نومهم.
وإذا كانت وزارة المياه، أحدث مثال تم طرحه في هذا السباق، فإن عدة أمور كثيرة يمكن طرحها. مما يحتم اطلاع المواطنين على فحوى القرارات ومسبباتها، الاعلام في صراحته يقرب المواطنين من هواجس صاحب القرار والمشرع ولا ينفر، إن الاعلام الصريح والمباشر، الذي يسابق وقوع الأحداث يصبح صانعاً للاحداث.
لقد أخذت كثير من الدول هيبتها من قوة اعلامها. فالحاكم الأعلى، وفي دولة كبرى كالولايات المتحدة يصبح صناعة اعلامية، ويصبح كل ما في الدولة بدون هذه الصناعة مغلقاً داخل حدوده، وتصبح مهمة توجيه وتعبئة الرأي العام، أحد حبائل الاعلام وقوته، وفي دول عربية رائدة في الاعلام يصطحب رئيس الدولة رتلاً من الاعلاميين يبثهم هواجسه ويمرر من خلالهم توجهاته، ويمنحهم فرصة الانفراد بالقرارات والأخبار. ومن هنا يتعاظم اعلام الدولة، وتصبح له القوة في مواجهة أي اعلام يتهدده، ويصبح مصدراً تنقل عنه وسائل الاعلام الخارجية، بدلاً من أن تتلصص هذه الوسائل المعلومات والأخبار.
العالم من حولنا بوابة مفتوحة فليس من المستحب لنا أن تكون بوابتنا مغلقة. بيد غيرنا مفاتيحها، كاللصوص يقتحمونها ويتلصصون علينا.
ودعونا نقترب من الموضوع مباشرة في أمثلة معينة. فيما يتعلق بالشأن الداخلي، أبرز تلك الأمثلة، لقاءات خادم الحرمين بالمواطنين، وأقصد تلك اللقاءات غير المعدة سلفاً بقصد اقامة حوار معلن عنها سلفاً، دائماً تلك اللقاءات التي يفد فيها المواطنون للسلام وعرض شكواهم أو مطالبهم وهو مظهر فريد تنفرد به بلادنا، حيث تصبح العلاقة بين الحاكم والمواطنين، على هذا المستوى غير المحدود من التواصل المباشر والعفوية في عرض الأحوال. وهي على أي حال تنطوي على نبض انساني عال لا يتوفر في أي بلاد من البلدان، وفي حين يُفوِّت الاعلام فرصة تسجيل تلك اللقاءات بالصوت وبثها على المواطنين، فإنه يفوت عليه فرصة نادرة وهدفاً حياً من أهداف الاعلام، وكذلك لقاءات ولي العهد مع المواطنين، وفي لقاء أخير مع منسوبي جامعة الملك سعود، حيث وضع سموه حجر الأساس لمبان جامعية جديدة وافتتح مشاريع علمية. أقيم حوار بين بعض اساتذة الجامعة وسموه وقد أتيح لقطاعات الرأي العام أن تتابع ذلك الحوار. ومن تلك الأمثلة، اجتماعات مجلس الشورى، لماذا لا تذاع مناقشات أعضاء المجلس على المواطنين.
وعلى مستوى الاتجاهات السياسية، لماذا لا يترك لاصحاب الرأي معانقة هواجس المواطنين في طرح القضايا المهمة التي تتعرض للشأن الوطني بالانتقاد من الاعلام الخارجي أياً كان مصدره، واعتبار ذلك مساندة لوجهة النظر الرسمية في مواجهة تلك القضايا. حيث إنه وجهة نظر من وجهات الرأي ومصدر من مصادر الضغط الداخلي. لقد اعترف وزير الدفاع الأمريكي بأن تهيئة الرأي العام الداخلي، جزء مهم من صياغة القرارات حيث انتقد ألمانيا وفرنسا بأنهما لم يسعيا إلى توجيه الرأي العام واعداده لتقبل التوجهات السياسية التي تصدر من أصحاب القرار. وعلى قرائي الأعزاء أن يحصوا كم مرة ظهر الرئيس الأمريكي أمام مصادر الاعلام وأعضاء حكومته المؤثرين في صياغة القرار. ثم يسألون أنفسهم لماذا يتدثر الحكام العرب بالصمت في هذه الظروف المهمة التي تقف بهم على مفترق الطرق، وتؤذن ببداية دور تاريخي جديد.
ومرة أخرى دعوني أقترب من هدف هذا الموضوع بشكل مباشر، فإنني وأنا أطرح وجهة نظري هذه في مسألة الاعلام في بلادنا، محكوم بتربيتي الاعلامية - إذا صح هذا التعبير - فأنا نتاج هذه السياسة الاعلامية بحكم عملي الصحفي وبأنني أحد الذين تربوا في هذه المدرسة، لم أشعر خلال ثلاثين عاماً أن مسؤولاً رسمياً أو غير رسمي، كان يوجه ما أكتبه أو يفرض عليّ ما أكتبه. وهو أمر إيجابي ننفرد به كصحفيين وكتاب في بلادنا ونفخر به - وليس معنى ذلك أن المطلوب هو جعل الصحفي أو الكاتب أداة يوجهها صاحب القرار السياسي أو المشرع - وإنما تربيتنا الصحفية كانت نتاج هذا التوجه الاعلامي السائد المحايد في الشأن العام الداخلي والخارجي، ولم يشهد تاريخ الصحافة في بلادنا أي رقيب يراقب ما ينشر قبل النشر، بل كان داخل كل كاتب وصحفي رقيب ذاتي، تربى وتعلم كيف يراقب ذاته. وأصبح في آخر الأمر جزءاً من هذا الحياء والخفر الاعلامي، وفي نظري انه استوى للمدرسة الاعلامية والصحفية في بلادنا طلاب ومتخرجون بحياء، لا يماري أحد في وطنيتهم وولائهم لبلادهم ولقيادتها ووحدتها الوطنية. فإنه إذا ما أخذ هؤلاء بزمام المبادرة في الممارسة الاعلامية وفق متغيرات الطموحات المحلية والدولية، محلياً وفي وسائلهم الاعلامية والصحفية فإن ذلك ادعى إلى شرعيتهم الوطنية، إذا لم يعد في ظل هذا التوجه ما يبرر ذلك اللغط والتأويل الذي ينشر في مصادر صحفية واعلامية، كما لو كان كشفاً أو سبقاً صحفياً لم ينشر محلياً.
وبنفس القدر من هذا المعنى، فإنه ليس من المبرر أن تخص وسائل الاعلام الخارجية بما تعتبره المصادر الصحفية المحلية حقاً من حقوقها في النشر، هي أولى به من تلك المصادر الخارجية التي تحقق من خلاله أهمية وقوة لها، بينما تظل صحف الداخل مصادر ثانوية، بل ومهمشة، إن قوة الاعلام والصحافة في أي بلد من بلدان العالم، تُستَمد من كونها ذات سلطة ضمن السلطات السيادية في بلادها.
|