Wednesday 12th march,2003 11122العدد الاربعاء 9 ,محرم 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الهزيمة الهزيمة
إبراهيم عبد الرحمن التركي

(1)
** كنا صغاراً «أو لم نكن كباراً..» حين حدثت هزيمة 1967م التي لم نعها في حينها.. ثم عشناها بعد حين..!
** كان جيلنا «مُسيّسا» من «قمة رأسه» الذي لم يره حتى «أسفل قدميه» اللتين حفرت «خطوطهما» في ذاكرته.. وارتسمت معها مأساة الأرض، وجراح «العِرْض».. وظل «واحدنا» يمشي «مكباً» على وجهه لا يستطيع رفع بصره.. فلازمه انحناء «القامة»..وانحدار «المقام»..!
** هكذا عاش جيل «الهزيمة» إحباطاته.. وسط «لجاج» ينتهي ليبدأ.. ويبدأ فلا ينتهي.. وكنا نرى «الحقائق» مقلوبة.. فلا نجرؤ على الكلام.. وإذا تربى «الناشئة» على «الصمت» استعاروا «أصواتَ» غيرهم.. وتضاعفت «هزائمُهم»..!
(2)
** لم يعش جيلنا زمن المد «القومي».. أو ربما لم يعه.. لكنه أدرك أو سمع عن «رموز» تُصنّم.. و«أسماء تعظم».. وقيل له ما قيل وسط «تناقضاتٍ» عجيبة.. فاختلطت الأمور لديه.. وعاش معادلةَ «الرأس» و«القدم» مرة أخرى.. يتبادلان أدوارهما.. «فالقمةُ» هنا هي «السفح» هناك.. والإبهار لدى أولاء هو «الانهيار» لدى أولئك..!
** كان قوميو «أبي خلدون» وبعثيُّو «عفلق» وناصريّو «جمال» وإخوانيّو «البنا» وتحريريّو «النبهاني» وثوريو «اليسار» ومحافظو «اليمين» يرسمون خارطة الصراعات «السياسية» و«العَقَديّة» ليخرج جيلُنا تابعاً بقراءات «ذاتية» أو باقتناعات «غَيْريّة».. وربما ازدادت الحماسة ببعضنا فتعصب لمن لا يعرف.. وكانت السجالات بين «صغارٍ» يهتفون.. و«كبارٍ» يهرفون، واتهامات تتمايل بين ما أسموه وقتها «رجعية» متخلفة و«تقدمية» متجاوزة تغيرت اليوم إلى «أصوليةٍ» جامدة، و«ليبرالية» ثائرة..!
** «التعدديةُ» سلوك جمعي «ايجابي».. وفي «أدبياتنا» نصوص كثيرة تعتز بالاختلاف دون الخلاف.. ونعي أن لو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة.. وأنهم لا يزالون مختلفين.. وندعي أننا قد سبقنا بذلك رؤية «فولتير» التي يدندن حولها «الطليعيون» حين قال:
* «لو كان هناك فكر واحد في انجلترا لكان طغيانه مروعاً.. ولو كان فيها فكران اثنان فقط لدمّر أحدُهما الآخر، غير أن فيها ثلاثين فكراً، ولذا تعيش في سلام ووئام..»..!
** ومن يقلق من صخب «التعددية» فإنه لم يجرب تسلط «الفردية».. بل إننا - إذ نعيش مقدمات الاختلاف «المؤدلج».. وقد عشنا افرازات الاختلاف «المسيّس» - «مقبلون» على مرحلة «ثريّة».. إذا استطعنا «القبول» بحق الجميع في القول.. وحق الجميع في القول على القول.. دون «تخوينٍ» أو «تكفيرٍ» أو «إقصاءٍ» أو «وصاية».. وهو أمر ممكن إذا ساد «العقلاءُ» في التوجهات.. وانسحب من الساحة «الأحاديون» ممن يرون بعين ويسمعون بأذن.. ويحكمون بالغَيْب والعيب..!
(3)
** في بني جيلنا من رفع عقيرته بالتمجيد للمرحلة «الناصرية» - مثلاً - وشاء حظُّه أن تكون آلتُه الاعلاميّةُ الناطقةُ بهواه هادرةً قادرةً على إلغاء الأصوات الأخرى..!
** كان وعيُ بعضِنا بسيطاً بحكم المرحلة العُمْريّة فتناقضتْ في داخله «تداعيات» الهزيمة مع «تجليات» الزعيم.. وتحفظ بعضُنا عن «تلميع» الرمز «المنطفئِ» باخفاقات حرب اليمن، وحرب 1967م، ومفاوضات وقف اطلاق النار، و«تكبيل» الأيدي والأقدام، وتكميم «الأفواه» ومذابح «الرأي» لكنه لم يستطع الجهر لأن التُّهَمَةَ «بالرجعية» في انتظاره.. ولأنه «حدثٌ» لم يبلغ الحلم بعد فقد اكتفى «بالمهادنةِ» و«الصمت» دون أن يُصفِّق للزعيم بل ولا لأي زعيم..!
(4)
** كبر الجيل.. وهو يتنقل بين الأزمات.. لم تكن أولها «مسرحية 1973م» ولم تقف ذروتها عند زيارة الذل عام 1977م ولم تنته بمشروعات الاستسلام ومغامرات «البُوشَيْن» وصدام..وأيقن بدوره «الجنائزي» ليكبّر أربعاً فقد «أعلنوا وفاة العرب»..!
** هكذا جاء قدره ليولد بعد الهزيمة.. وينشأ مع الهزيمة.. ويدفن - إلا أن تتداركه رحمة ربه - مع الهزيمة.. وتملى عليه مواقفُه..فلا يكاد - وهو الفصيح - يُبين..!
** حبرٌ أسود.. يسطر كلماتٍ قاتمة.. لنعْي أمة في «ذاكرة» جيل.. وهنا أقسى الهزائم.. فردد مع خليل حاوي:
* «عمّقِ الحُفرةَ يا حفار.. عَمِّقْها لقاعٍ لا قرار.. الجماهير التي يعلكها دولاب نار... من أنا.. حتى أرد الموت عنها والدمار.؟!
** وتساءل: «من أين ترفعُ السنابلُ الخضرأءُ في القرى أعناقَها..»؟ .. أقلْبُ الغريب كقلب أخيك؟ أعيناه عينا أخيك؟»، وهل تتساوى يدٌ سيفُها كان لك.. بيدٍ سيفُها أثكلك.. «ولم يجب فخاب فينا «أمل دنقل» وطواه «الحزن» ثم «الثرى»..!
***
(5)
** شبَّ جيلُنا.. وأوشك أن يشيب..وهرب بعضنا إلى فضاءات «التيه»، وبوهيميات «الرفض»، ووُجد فينا من سلا، ومن تبلد، ومن «احترق» ومن «ارتزق»، ومن ذاب في يومه، ومن قتله غده..!
** استوى «الوجهُ» و«القفا».. وتماثل من استسلم لصروف الحياة ومن استمالتْه اغراءاتُها.. فكان في جيلنا «عقلاء» أجَّروا عقولهم، و«مجانينُ» ارتدتْهم اغراءات «الهوى» واحباطات الهوان..!
** استلم جيلُنا بعضاً من «الكراسي»، وخرج منه قادةٌ في «الرأي» وسادةٌ في «الفعل».. ولن تمضي سنوات حتى ينفرد «بالسيادة» و«القيادة».. وأعظم اللهُ أجرَ أمةٍ يتصدر لخلاصها «المأسورون».. و«المأجورون» .. و«المقهورون»..!
***
(6)
** لا معنى أمام جيلنا لمحاولة إحراق «البخور» لذاته أو صفاته.. وفي هذا -رغم الجراح- نقطةُ ضوء.. فمحاكمة النفس خطوةٌ مهمة.. وما قتل الأمةَ مثلُ لغةِ «الاستعلاء» تصنع قوةً «دونكيشوتية»، ومنطقِ «الاستعداء» يفرض العزلة «الذهنية»، وتبريرِ «الارتماء» يكرِّس مفهومَ «التبعية»..!
** هذه حكايةُ جيلٍ لم يسكنه «الفرح» فهرب من «ذاته» إلى «ملذّاته»، ومن همِّه إلى «وهمه»، ومن شجنه إلى «وهنه» وحاول الخروجَ من «النفق» فصادفته أنفاق..
***
(7)
** تتلمذ جيلُنا على تصادماتٍ «عقليّة» و«اجتماعية» و«سياسيّة» عميقة وربما «عقيمة».. فوجد أمامه «سيد قطب»، و«عبد الله القصيمي»، و«محمد الغزالي»، و«صادق جلال العظم»، وقرأ في فكر «المودودي» و«الجابري» و«عبد الرحمن منيف» و«حسن حنفي»، وعاش في ظل أنظمةٍ متضادة «مفتوحة ومغلقة» و«متساهلة ومتعصبة»، و«متسامحة ومتشددة» فجاء مثلَها.. يلبس «مآزرَها».. ويحمل «أوزارها».. ويبرر «زورها»..!
** ولعل جانباً من عناوين وموضوعات الإصدارات الفكرية تشي «بالخطوط» التي ترسم منحنياتِ التوجهات لجيلنا المتتلمذ في مدارس «السقوط» والانتكاس.. واقرأوا - إن شئتم - عناوين هذه التأليف:
الهزيمة والأيدولوجيّة المهزومة / دكتاتوريّة التخلف العربي/ اغتيال العقل/ انفجار المشرق العربي/ الاغتيال السياسي/ من تاريخ التعذيب/ مساءلة الهزيمة/ أقنعة الناصريّة السبعة/ الفكر العربي وصراع الأضداد/ جاهلية القرن العشرين/ هذي هي الأغلال/ العالم ليس عقلاً/ مدن الملح/ مثقفون وعسكر/ كبرياء التاريخ في مأزق/ أيها العار إن المجد لك/ عاشقٌ لعار التاريخ/ معركة بلا راية/ أرض السواد.../ ...
** تتوقف الاستشهادات دون أن تقف.. فقد تعلم جيلُنا أبجديات الهزيمة.. ورضع من أثدائها.. واستطاع بجدارة أن يُحلِّلها ويسبرَ أغوارَها دون أن يستطيع استخلاص العبر أو النهوضَ من الحفر..
* الهزيمةُ.. لا تهزم..!

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved