في مقال الأسبوع الماضي.. قَرعتُ أجراسَ التنبيه إلى خطر الانبهار بشق الحضارة المادية وانحراف ميزان القوة بشدة لصالح الشاطىء الغربي، إلى حد الإحساس في مواجهته بالدونية، وامتطاء جواد الغير بصرف النظر عن كفاءته للطبيعة المكانية ولخصوصيتنا التي نعض عليها بالنواجذ في عالم تتخطفه المحن الآن ولسنا عن ذلك ببعيد.
وكنت أعتزم الكتابة اليوم عن المدرسة الأنجلو أمريكية والأخلاق الحميدة، مستعرضاً لونا من ألوان الخداع السياسي والغزو الفكري في عالم اليوم، لكنني توقفت أمام مقال «الخصوصية السعودية» في صحيفة «الشرق الأوسط» العدد 8861 الصادر يوم الاثنين 3/3/2003م للأستاذ سليمان النقيدان، وفيه يقول: «أما آن الأوان لمراجعتها أي الخصوصية وإعادة النظر في فلسفتها والخجل والاعتذار والبراءة منها»! ويستطرد قائلاً «إن سبب مشكلتنا أو قل سبب جمودنا الحضاري وعدائنا (للحداثة) نحن السعوديين، هو اننا اختلقنا كذبة تاريخية سوداء بحجم هذا الوطن وشعبه، دون وعي منا لأبعادها الكارثية، وعنادها الحضاري، وقهرها الاجتماعي، وأسسنا عليها افكارا وتوجهات خاطئة وهي (اننا شعب مختلف، وبخصوصية ثقافية ومكانية).. كما تلاحظون عبارة بسيطة، ولكنها ملغومة بالأذى، ومشحونة بكل ما هو كريه مرفوض». وقد نتفق مع الأستاذ النقيدان في رفض «محاولة البعض لي عنق النص الديني لخدمة العنصرية الغبية»، أينما وقع هذا، كما نتفق معه في لزومية مراجعة بعض مقومات خصوصيتنا التي لم تعد ملائمة للعصر، ومنها على سبيل المثال تعميم الحكم السلبي على الغير بالشائع من فعل القلة، والغضاضة في استقبال الرأي الآخر، والتفاخر بالبذخ، وما إلى ذلك، وعلى أن تتم المراجعة في حدود الفروع دون المساس بالأصول، فالشريعة الإسلامية قد جعلها الله صالحة لكل زمان ومكان، ولذلك فرض الجهاد على العامة والاجتهاد على الخاصة حتى تقوم الساعة، لكنني وغالبية الأسرة السعودية أعني أبناء هذا الوطن نرفض تعميم الحكم على مقومات خصوصيتنا مطلقا، فلست ارى بأساً في ان يكون لكل أمة خصوصيتها، مهما تشاركت مع باقي الأمم في العموميات، إلا أن تكون الدعوة ملزمة حتى بالإرهاب الفكري للذوبان في أتون العولمة، والتنازل عن خصوصية الإسلام، ومهبط الوحي، وشرف خدمة الحرمين الشريفين، وكل المسالك الحميدة التي ترسخت في وجدان هذا المجتمع عبر اجياله المتعاقبة، ولماذا ينكرون علينا الخصوصية بينما إمبراطور العولمة السيد بوش الابن ذاته له خصوصية اذاعت بعضها مجلة «النيوزويك»السبت الماضي فقالت إنه رجل شديد التدين، ويعتقد ان الله قد نصره على آل جور في الانتخابات بسبب امتناعه عن شرب الخمر قبل 17 عاماً!.
فلماذا تتحول خصوصيتنا نحن إلى «الكذبة التاريخية السوداء التي اخترعناها»؟! وكيف يستقيم وصف الكاتب لحالة المجتمع بأنه يواصل «الانغلاق والغلو، ورفض كل ما هو وافد وجديد ومختلف، حتى لو كان هذا المختلف منجزاً إنسانياً محايداً ومفيداً، ولا يتعارض مع الثابت من الدين وقيمه»، مع ما هو ثابت على ارض الواقع ثمرة للملحمة التنموية التي انجزت على أرض المملكة العربية السعودية، والتي استطاعت ان تنتقل في حقبة زمنية لا تجاوز النصف قرن، من مرحلة البداوة والبدائية، إلى ما هي عليه الآن.. خاصة وانها لم تجفل طوال حركتها أمام أي منتج حضاري يفيد مسيرتها، ولا يتعارض مع صحيح الدين الإسلامي الذي ارتضيناه دستوراً وحيداً ولو كره الكارهون.. هنا رأينا السيارة والطائرة والثلاجة والغسالة والتلفاز والفيديو والدش والإنترنت وكل الأدوات الجديدة في بلادنا، وخرجنا بالفتاة من عقر دارها إلى المدرسة بمراحلها المختلفة حتى نالت درجة الدكتوراه، ورأيناها عندنا أستاذة جامعية ومعلمة وطبيبة وممرضة ومصرفية، وانفتحت سماؤنا على سماوات العالم وحتى غزو الفضاء لنا فيه رائد، فماذا بقي من ادوات الحضارة لم تستفد منه السعودية؟!.. ومن حيث حرية التعبير نجد انفراجا كبيراً في حرية اعلامنا، ولعل تبادلنا الحوار على هذا النحو يقوم دليلاً على ذلك. إن ملايين الحجاج والمعتمرين الذين يفدون إلى البلاد ويطالعون التطور التنموي الفذ، وتنامي الخدمات المقدمة لهم كما وكيفما على هذا النحو الميسر عاما بعد عام، يعودون إلى بلادهم في مشارق الأرض ومغاربها، يتحدثون عن رفعة التجربة التنموية هنا، فما بالكم بنا نحن الذين نعيش التجربة ونشارك فيها، هل يمكن أن ينكر أحدنا قياسها الزمني وسلامة خياراتها؟!
بقي أن نحاول الاجتهاد في تفسير ما ذهب اليه الكاتب حين قال «ومن يعتقد أو يعتبر أن التطوير والتحديث والمشاركة والاقتراع مساس بالثوابت فهو مخطىء جداً» وقد نبني اجتهادنا على استرشاد الكاتب بمقولة المفكر العربي تركي الحمد «ثقافتنا ومجتمعنا ليسا مؤهلين من هذه الناحية لممارسة الديموقراطية، ولكن هل يعني هذا تركها ورفضها، والقول بخصوصية بشعة حتى في هذا المجال؟ جيناتنا لا تختلف عن جينات بقية خلق الله، ولكن جينات ثقافتنا هي التي تختلف، ولذلك يجب ان نتغير، ولكن كيف؟» ومع أننا نعرف بأن الجينات هي الجهاز الذي ائتمنه الخالق جل وعلا على حفظ العوامل الوراثية وانتقالها من جيل الى جيل، بما يعني أن اختلاف ثقافتنا ناشئ طبيعي عن اختلاف جيناتنا، شأن اختلاف البشر الذي أراده الله، ولا بأس أن الصفات المكتسبة بالمعاصرة قد تنمي وتهذب العوامل الموروثة لكنها لا يمكن ان تهدمها وتستبدل بها غيرها من هنا أو هناك وإلا نصبح كالغراب الأبيض!
إذن هي الديموقراطية، وربما يتبعها وضع المرأة هما ما يظن بعض المستغربين منا انهما عورتان في المجتمع، وقد تحدثت في اكثر من مقال سابق عن الديموقراطية التي ظاهرها الرحمة وباطنه العذاب، وأدعو الأخ العزيز إلى النظر بعين فاحصة إلى جناية الديموقراطية ووبالها حتى على المجتمعات التي اخترعتها اصلا وعلى رأسها النموذج الأمريكي، أو التي تتباهى بها الآن وعلى رأسها عصابة شارون وزبانيته المسماه بإسرائيل، وحتى نلتقي الأسبوع القادم بإذن الله مع الموضوع المؤجل، أستطيع التأكيد على أن الإدعاء بأن الدواء السحري لمشاكل العرب يكمن في الديموقراطية وتحرير المرأة تروج له دوائر الغرب أحياناً بأقلام مع الأسف عربية!
|