* بغداد - د. حميد عبد الله:
كل الساعات والتوقيتات من غرينش وبك بن حتى ساعة بغداد المرتفعة قرب نصب الجندي المجهول تحسب مرور الزمن بالدقيقة والثانية إلا ساعة الصفر فحين يبدأ عملها يتوقف الزمن لتعود المؤشرات والرقاصات إلى الوراء.. فالدماء لا تعود إلى القلب وانما تشخب من الجروح والأنهار تسقط في بطونها الجسور ليعود الماء إلى المنابع والأمهات يحدقن بالأبواب في انتظار أوبة الأبناء.. وتلك الكمية من الرعب التي تنفثها صفارات الإنذار كافية وحدها لتجهض المرأة الحامل في قارعة الطريق.
هذه الساعة التي مازالت أمريكا تحوك بها لتهديها للعراق..تتوعدهم بها كل لحظة وتحمل أجزاءها على حاملات الطائرات وتوفر لها العمال بملابس الكوماندوز المدرب على تشغيل ساعة الصفر بكفاءة منذ عام 1990 حتى هذه اللحظة ولكن.. أين انعكاسات هذه الساعة على وجوه العراقيين؟وعلى حركاتهم؟ أية تجربة بالغة العمق تعكسها الوجوه. فهل هم غير آبهين بما سوف يحدث؟ أم هي قشرة بيضة ملساء بيضاء دافئة وفي داخلها فرخ يضج بالنماء والتحفز؟ وهل هذه الهدية هي جزاء الهدية الأولى؟ أتعود هدية حساب الزمن محورة بعنوان زمن الحساب؟. وماذا سيقول شارلمان للرشيد حين يتقابلان يوما لا محالة.
يقول المؤرخ الفرنسي فولتير أن أول ساعة عرفت في أوربا هي الساعة التي أهداها الرشيد إلى شرلمان سنة 807 م.. أي قبل (1200) سنة فحين أراد شرلمان ملك فرنسا الذي عاصر الخليفة العباسي هارون الرشيد أن تتوثق العلاقة بينهما بعد أن علم بقوته وعظمة دولته وسلطانه ليتسنى للمسيحيين الأوربيين زيارة بيت المقدس وليحميهم في ذهابهم وإيابهم ولذا أرسل إليه السفراء محملين بالهدايا الفاخرة. ورد عليه الرشيد هديته بأحسن منها ومن بينها ساعة مائية دقاقة مصنوعة بمهارة اعجب بها شارلمان ودهش رجاله وهرب بعضهم من المجلس عند سماع دقاتها ظنا منهم بأن شيطانا أو عفريتا بداخلها.
ويعود الزمن القهقرى لتهدي إلينا أمريكا وأوربا ساعة لا تدق سوى دقة واحدة مقدارها لحظة واحدة هي التي تستغرقها لفظة : اهجم.. اقتل من اجل النفط..دمر لتحتل بئرا. تلك هي ساعة الصفر حيث ينعدم الزمن في ساعة الرشيد لتبدأ ساعة الدم حتى يتخثر وعندئذ يتسرب من الشرايين السائل النفطي الأسود باتجاه الدورة الدموية الكبرى والصغرى في جسد أمريكا.
ويضيف المؤرخ الفرنسي.. أن الساعة كان لها اثنا عشر بابا صغيرا بعدد الساعات فكلما مضت ساعة فتح باب وخرجت منه كرات من نحاس صغيرة تقع على جرس فيقرع ويطن بعدد الساعات وتبقى الأبواب مفتوحة وحينئذ تخرج صور اثني عشر فارسا على خيل تدور على صفحة الساعة.أما أبواب ساعة الصفر الأمريكية فبعدد آلاف الأهداف المنتخبة للتدمير .... وابواب ساعة الصفر الأمريكية لا تخرج منها كرات من نحاس لتقرع على الجرس إنما تقرع صافرات الإنذار لتنطلق الفانتوم والقاصفات لتهدم أبراج الكنائس فتقرع أجراسها مرة واحدة ولتطيح بمآذن الجوامع قبل أن يكمل المؤذن الأذان لصلاة الفجر.
ليس في ساعة هارون الرشيد عفاريت ولا شياطين ولكن في ساعة الصفر الأمريكية صواريخ بلا سروج تدور على صفحة الساعة بعيون إلكترونية ولاتفرق بين القلب والصخرة. وكما بدا ويبدو أن لا أحد من رجال الديوان ولاالحاشية ولا الرعية سوف يهرب:
يقول أحد الأصدقاء بعد أن تلقى مكالمة هاتفية من أخيه الساكن في أمريكا انه سمع لهاث أخيه وهو يسأله عن أحواله في ساعة الصفر ويدعوه إلى مغادرة بيته. _ أين؟._ إلى بستان الأقارب في الريف !._ ما الذي حصل؟._ ألا تسمع الأخبار؟. _ أية أخبار؟. _ ساعة الصفر.. الحرب !. _ لا تقلق عليَّ وتشغل الخط فهذا موعد اتصال الحبيبة. وتساءل صديقي _ تُرى ما الذي يجب أن يظهر على سلوك شعب مهدد بساعة الصفر؟ لقد عهدها من قبل.. في التاريخ القديم والمعاصر والحاضر فأيقن انها مهما طالت فسوف تتوقف لتعود ساعة الرشيد لتنظم الحياة.. ولذلك فان هذا الاطمئنان والهدوء هو هدوء الحذِر المجرب.. سلوك يعي النتائج النهائية مهما تأخرت.. انه ليس مفتعلا" لكنه سجية مكتسبة ففي الكيان تحت الهدوء يناقش وينفعل ويترقب ويستعد.. فكم يبدو غطاء محرك السيارة أملس «ناعما وبراقا» لكن ما تحته مجموعة دائبة الحركة في انتظار تعشيق المسننات لتنطلق.
صحفية أجنبية طافت شوارع بغداد وربما بقية المحافظات مع مصورها.. شقت طريقها في شارع المتنبي المكتظ بالمكتبات والمارة والمشترين والمتصفحين بهدوء في ساعة الصفر وحين جلست في مقهى الشابندر المعروف برواده المثقفين تظاهرت بالهدوء مقلدة الرواد وهي تحتسي الشاي ولم تلبث حتى نفد صبرها فسألت _ أين مظاهر ساعة الصفر.. يجب أن تظهر أول ما تظهر على الوجوه؟ من الخائف في هذه الساعة؟ وماذا سأكتب لصحيفتي؟ ما الذي أراه.. أهو البرود أم الاستكانة.. أم ماذا؟؟. وسكتت. والإجابة يجب ان تكون على (أم ماذا؟) فهي تعرف أن أسئلتها الأولى صاغتها الحرفة الصحفية للمقدمة. ولكن كيف يشرح لها المجيب؟ كيف يفهمها خصوصية السلوك العراقي في ساعة الصفر الأمريكية.
لقد حفروا الآبار في الساحات والبيوت وتجمعوا حولها لتبادل الدعابات. وبنوا المتاريس وحفروا الخنادق وانطلق أحدهم قافزا في الخندق مجربا ترصد العدو بحرفية رجل يستعرض تجاربه السابقة.. وخزنوا الأقوات وهيأوا الفوانيس والشموع وملأوا البراميل بالوقود كما ملأوا مخازن العتاد بالرصاص وألقموها بنادقهم .. وحضروا الاجتماعات ودرسوا الخطط وناقشوا أنواع المجابهة.. فلماذا الانفعال إذن والصبر واجب شرعي..؟ وأهداف ساعة الصفر لاتخفى حتى على الأطفال.؟ وببساطة فان نفط أمريكا سينضب عام 2007 وعليها أن تُبقي خزينها الاستراتيجي بمستوى نمط العيش الأمريكي.. وفي العراق ثروات لا حصر لها وأهمها النفط.. فلتحصل عليه بلا مقابل. ومازالت قشرة الوجه العراقي تتندر على الخُمس الظاهر من جبل الثلج الأمريكي العائم.. الخُمس المطلي بالوعود وكلما تزحلق الطلاء عاد الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض واخرج الفرشاة من فمه وراح يصرخ على حقوق الإنسان في العراق وانعدام الديمقراطية والبناء الحضاري الذي يمعنون بتدميره يوميا" ثم يكشف عن خطة الاحتلال وتنصيب الحاكم العسكري الأمريكي واعداد البلاد للمرحلة الانتقالية خلال خمس سنوات. ولم يقل قبل أن ينفد خزينهم النفطي ولم يكشف عن أساليب امتصاص النفط بالشفط ( والشيل والحط ) فهل بهذا الوعي حاجة لان يظهر الاكتراث على وجوه العراقيين خرائط ملونة من الذعر والخوف والهلع؟ فكم بدا لنا سطح البحر هادئا" وسفينة جاك كوستو عالم البحار الفرنسي ترسو عليه مطمئنة.. ولكن حين قفز الغواصون بكاميراتهم إلى الأعماق أدهشوا العالم بما يمور به أسفل تلك القشرة الصافية من غرائب المخلوقات وأعاجيب المكتشفات.
والعراقي يعرف إمكانات أمريكا العسكرية ويعي أنها قد تتمكن من احتلال الجمادات والسوائل. ثم ماذا؟. هل تتمكن من احتلال العراقي واحتوائه؟. وحين يقول الرئيس العراقي صدام حسين للناس بأنه يرى النصر كما يرى الحاضرين أمامه فانه لا يقصد شحذ الهمم أو يؤدي واجبه كقائد عليه أن يرفع المعنويات لكنه يكشف عن حقيقة مقاييس النتائج النهائية. ترى هل تمكنت من أن أشرح سبب هدوئي وأكشف ما تحت ملامحي في ساعة الصفر التي يصنع هارون الرشيد لها بابا في ساعته المائية الدقاقة وهو الذي خاض الحروب حتى أدهش شارلمان؟!
|