Tuesday 11th march,2003 11121العدد الثلاثاء 8 ,محرم 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

مفهوم «الحق والحرية» في السرديات بين: الإفراط والتفريط! مفهوم «الحق والحرية» في السرديات بين: الإفراط والتفريط!
د. حسن بن فهد الهويمل

علينا قبل القول المباشر في اشكاليات الابداع السردي الناجمة عن الفهم الخاطئ ل«الحق» و«الحرية»، أن نحدد مفهومنا الشخصي لمفردات العنوان، وهو مفهوم تكاملي، «يتناص» مع مفاهيم متعددة، مشكلاً معها دوائر متداخلة - لا مستقلة ولا مطابقة -، وليس ببعيد أن يثير اختلافاً كثيراً، وتأويلات تحيد به عن مقاصده، وبخاصة ممن لا يحترمون المصداقية، وليس هناك أدنى احتمال للتوافق بين وجهات النظر، ما لم يكن هناك معرفة ومصداقية. بل أكاد أقول: - بأنه ليس هناك رغبة في التوافق، متى كان الاختلاف في سبيل البحث عن الحق، فنحن أحوج ما نكون إلى المزيد من الاجتهاد، والمزيد من الاضافات، ومع مشروعية الاجتهاد والاختلاف، فإنه لابد من أهلية وضابط، للتوفر على قواسم مشتركة، تمكن من تقارب وجهات النظر، أو التعاذر، وهو ما نود مناهزته في بحثنا هذا، وفيما نستقبل من بحوث. ولما أن كانت المفاهيم متعارضة أو متفاوتة، كان علينا أن نحاول استعراض مجملها، وأن نكشف عن السلبيات والايجابيات جراء اصرار المختلفين الذين تجتالهم العموميات، وتستزلهم محدثات غيرهم، مما لا يعد من مشتركات الحضارات الانسانية، دون علم بالمعاصرة، ودون استيعاب للأصالة، والمتقحمون للمشاهد برؤى مهزوزة، وتصورات سقيمة، وبضائع مزجاة، يسيئون للمتضلعين والمتثبتين، لأنهم لا يتوفرون على القدر المطلوب من أدب الحوار ومؤهلاته المعرفية، فتقليد الطارف ليس بأحسن حال من تقليد التليد، والمجدد الحق من يتقن لعبة «التناص» بحيث يغيب الآخر، ولا يغيب فيه، وأكثر المتحدثين لا يتقنون هذه اللعبة، ومن ثم فهم واقعون فيما ينهون عنه، وما ظواهر الخلل المضاعف إلا بعض مقترفات من تلتبس عليهم الأمور. ولما كان الاجتهاد مشروعاً، كانت نتائجه مشروعة. ومشروعية الاجتهاد لا تكون إلا لمن يملك حقه من علم أصيل، وتجريب معاصر، وفقه للواقع ومتطلباته، ومنهج دقيق، وآلة معرفية، وتحرف سليم، وعقل وتفكير متزنين. والحديث من السرديات يطال مرتكزات حضارية.
حديث عن «اللغة» بوصفها الشفرة التواصيلة، ولاسيما في ظل المستجدات اللغوية من «بينوية» و«تفكيكية» و«تحويلية». وحديث عن «المضمون» بوصفه مضغة الجسد السردي، ولا سيما في ظل تعدد «الأيديولوجيات» وصراع الحضارات. وحديث عن «الفنيات» بوصفها الحد الفاصل بين أنواع الفن القولي، ولاسيما في ظل التحولات والتخليات. وإذ يكون للشعر ضوابطه، تكون للسرديات ضوابطها، ومن استخف بها، كان استخفافه بقية من رؤى سلفت، لا تقيم وزناً للقص، لأنه لا يرقى إلى سدة الفن الشعري الرفيع، حسب زعمهم الذي أردى الفن السردي إلى حين، والتفلت على الضوابط دون قيد الغاء ضمني للتنوع الابداعي، وهو ما يقترفه المترسمون خطى الغرب باسم التجديد تارة، وباسم الحداثة تارة أخرى، وباسم الحق والحرية تارة ثالثة. وما من شيء من ذلك ابتدروه، أو استبدوا به. وإذ يكون هناك متاهات في حدود الحق الفني، تكون هناك متاهات أشد وأنكى في حدود الحق الديني والأخلاقي والحضاري، وحديثنا عن حدود «الحق» و«الحرية» في : «اللغة» و«المضمون» و«الشرط الفني»، يتطلب منا معرفة المفاهيم، واعتماد الوسطية. و«السرد» أو «السردية» مصطلح مراوغ، وهو في نظري يقابل «النظم» بمفهومه الشعري، وإن كان بين مصطلح «السرد» و«النظم» عموم وخصوص، فهو عند «الخليل» غيره عند «الجرجاني» الذي يراه: تركيباً للكلام بطريقة ابداعية معجزة، وعبر لغة انزياحية، و«السرد» الابداعي مثله، ومن ثم يختلف عن «السرد» العادي. وحين يكون ابداعاً، تكون له ضوابطه: البنائية، والشكلية، والدلالية، وهو مصطلح يطلق على صيغة مخصوصة من صيغ الخطاب، تتعلق بحبك الأحداث ومتعلقاتها: الشخصية والظرفية، لا وصفها أو رصدها كما اتفق، وله أنواعه ك«السابق» و«اللاحق» و«المزامن» و«المتداخل» و«المضاد». و«السردية» علم السرد المميز له عن «المسرحية» و«القصيدة» و«القول» العفوي. واختلاف طبيعة النص، فوتت على المعنيين تحقق علمية السرد، في ظل «علمية النقد». وقد أحال الدارسون إلى رؤية «جينيت» و«قريماس» و«باختين»، ولا يتحقق التصور السليم إلا إذا عرفنا ما تتحقق به الأشياء، وما تتميز به. وقديماً قيل: - «الحكم على الشيء فرع عن تصوره»، والذين يكتبون بلغة شائعة، وتراكيب مألوفة، ونصوص فارغة، وحوار ممل، لا يكون أحد منهم من ذوي المواهب ولا المعارف يميتون الفن، ومن لم يتوفر على معرفة تامة بنظام اللغة: من نحو وصرف، وأساليب الكلام، وجماليات الفن، وضرورة الكلم الطيب والقول السديد، ومقتضيات القيم الحضارية التي ينتمي إليها المبدع، والناقد، ثم لا يكون المبدع موهوباً، يمارس بموهبته، وبمحفزات موقفه، وتجربته، وثقافته، ووعيه للأنموذج، ومنازعته قصب السبق، يكون كل ما يأتي به غثاء كغثاء السيل، وزيد يذهب جفاء، يلفه النقاد الحقيقيون، كما يلف الثوب الخلق، ثم يرمون به وجه صاحبه. ولا تخلو المشاهد من الطائفتين: الضعفاء والجهلة، ولا عبرة بالمجاملات، والمسايرات والمقايضات التي يستبقها البعض. ولو أنصف النقاد، وصدعوا بالحق، ولم يخشوا به لومة لائم، تلاشت فلول الأدعياء، وصينت كرامة الفن واللغة والقيم. والمجاملات، وبناء الأمجاد الوهمية بالتملق تصيب المشاهد بالتصوح، ثم يكون ركام الروايات، التي لا تكاد تجد فيها راحلة، تبلغ بك الغاية من اثراء جمالي ولغوي وقيم ثقافية وفنية وأخلاقية.
ولأن المبدعين والمتلقين كما المستهمين في سفينة الحياة والفن فإن مفاهيمهم ل«اللغة» و«المضمون» و«السرد» و«الشكل» و«الحبكة» و«الحرية» حين لا يَضْبِطُ إيقاعها شرط، ولا تحكمها قيم، تُخرق السفينةُ، ويَغرق أهلها، سواء كانوا أهل فن أو لغة أو قيم. وما لم يكن كل شيء بمقدار، وخاضعاً لنظام، ومدعوماً بمعرفة، يعود الانسان إلى بدائيته الأمية، وكيف نرضاها، وما من أمة إلا خلا فيها حراس فضيلة، وأهل علم، يأطرون، ويعلمون. وليس من مصلحة الفن ألا ينبري لهذه الفوضى المستحكمة والعبثية المستشرية حكيم، يقول الحق، ويهدي سواء السبيل، ولا شك أن المجاملات والمداهنات، تدفع بالبعض إلى استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير: دلالة ولغة وفناً. بحيث يدعي التألق الفني من لا يحمل الموهبة. والفن القولي وغيره لا يؤتاه إلا موهوب، ولا تتفجر الموهبة إلا في اللحظة الضاغطة. وحين لا يبدع الشعر إلا شاعر، ولا يبدع السرد إلا سارد، فإن هناك طوائف من المقتدرين: لغة وثقافة، ينظمون الكلام، ويكتبون القول، ثم يجدون من يؤكد لهم أوهامهم. والشباب المبتدئون حين لا يروض جماحهم حكيم مجرب وعالم حصيف، يستخفهم الثناء الكاذب، ثم يرون أنفسهم فوق النقد، وفوق التوجه والمراجعة. وقد يبلغ بالناشئين منهم سوء الخلق إلى منازلة الناصحين، والرتوع في أعراضهم، من أجل الاحتفاظ بما أهدي لهم. ولما كان واجب العارفين بالظواهر الفنية والبواطن اللغوية الأخذ على أيدي الجريئين المجازفين لطمس المعالم والغاء الشروط، أصبح من الطبيعي أن تدار القضايا والظواهر السردية سعياً وراء الوصول إلى أرضية مشتركة، تحسم الخلاف، أو تخفف من حدته. وإذ لا نرى بداً من الاختلاف في وجهات النظر، فإننا لا نريد لهذه اللازمة أن تصل بالمختلفين إلى حد التنازع المخل بالمروءة، ولا نريد لغير أهل الاجتهاد أن يجتهدوا، فيوقعوا الآخرين في اللبس. وإذ يكون التجديد والتغيير والتبديل من السنن الكونية، يكون من لوازم ذلك أن يكون المجدد متجاوزاً بتجديده الأنموذج الابداعي الذي شد الانتباه، وقدم السمة، وحدد النوع الفني، وبلغ الرقم القياسي، الذي لم يحطم، الأنموذج الذي أمد النقاد بما انطوى عليه من سمات ابداعية. وحين تكون للأنموذج سمته، يكون من واجب المجدد أن يجتهد في تقديم نص أفضل منه، وإذا لم يكن قادراً على التحدي والتجاوز، فمن الخير له وللمشهد أن يحافظ على المنجز، لا أن يهدمه، ثم لا يقيم بديلاً أفضل. ولا يعني حق التجديد مطلق المغايرة، وإنما يعني: الاستجابة للحاجة، والتواؤم مع الذائقة، وتحقيق الأفضل. وتقليد التجريب الغربي لا يكون تجديداً، وأصحاب كل علم أو فن يفرقون بين التجديد والمحاكاة، ويعرفون القدر المشروع من «الحرية» و«الحق العام»، ويعرفون حق المتضلعين بشروط الفن وضوابط القيم في الأخذ على يد كل من يقترف الخطايا أو ينتهك الفنون باسم الفهم الخاطئ للحرية والحق، وما من عاقل يقول بمطلق الحق، ومطلق الحرية، ويرضي اختلاط الفنون، وفقدها لأبسط سماتها، بحيث يكتب الكاتب ما شاء، عما شاء، بالشكل الذي يريد، وعبر اللهجة العامية التي تؤسس للازدواج اللغوي، وتفصل الأمة عن تراثها، ثم يكون في نظر المسايرين: رغبة أو رهبة الشاعر المفلق، والروائي المتألق. وعلينا استرجاع ما قيل عن أعمال روائية، لم يكتب أصحابها من قبل شيئاً، وما أن تلقفتها الأيدي، أو سمعت بها الآذان، حتى أصبحت الفتح المبين في عالم السرديات، وتقاطر السرعان من الكتاب والنقاد يمطرونها، ويمطرون أصحابها بالثناء الباذخ. ولنضرب المثل بروايتي «الحزم» و«سقف الكفاية» حتى لقد سخر الأخير - رغم حداثة سنة - بالمندفعين سخرية مرة. ولو نظر فيهما النقد العلمي المتزن، وتفحصهما بآليات المعارف وموازين القيم، لأخذت كل رواية موقعها الطبعي. وماذا أبقى المغرّرون للسنوات القادمة والأعمال المرتقبة، ولقد شهدنا امتعاض البعض منهم واستغرابهم من تزويد المؤسسات بالنصائح للمبدع، وما علم أولئك أن: - «الدين النصيحة» وأن المبدع وغيره يظل طالب علم، ومن استغنى عن التعلم والنصائح، فهو مصاب بجنون العظمة، ومما خدعنا به اهتام القارئ «الأوروبي» واحتفاء النقاد الغربيين بالمنجز السردي الشرقي، مع أنه لا يعد شهادة تفوق ولا تألق، فالغربيون يحتفون بإبداعاتنا التي تكرس مفهوم البدائية والهمجية والتوحشية والشبقية. ولك أن تنظر إلى ما كتبوه عن «ألف ليلة وليلة» وما هي إلا حديث خرافة بلغة عامية، تهبط بالمدينة والحضارة المشرقية إلى درك البدائية، حتى لقد تعقبها بعض الدارسين، وبرهن عن مصادرها اليهودية. ولما نزل نراها سفيرنا إلى عوالم الابداع السردي، ونساير الغربيين في اختصارنا ابداعياً فيها. ومتى رأيت احتفاء غربياً بفن أو فكر عربي، فالتمس حوله عهر أو كفر، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم. ولو أعطى الناس هذا القدر من الحرية في القول ورد القول، لهدمت فنون، وعقائد، وقيم، تضبط إيقاع الحياة، وتحفظ توازنها. والمتحدثون دون علم بضوابط الفن، ودون موهبة، ودون ثقافة، يشيعون فيما بينهم هذا القدر من الحق المطلق، وهذا النمط من الحرية الفوضوية، ليشرعنوا كل خطأ أو خطل. ولو قبل منهم هذا الاطلاق، لضاعت الحقوق، وانعدمت الحريات، وما من مُخِفّ من المعرفة، خال من الموهبة، مقو من اللغة مفتقر إلى الحياء والحشمة إلا يعوض تلك النواقص بالتزود من الفحش في القول، والامعان في المناقضة، والانتهاك للغة والفن، والايغال في المسكوت عنه، ليلهي الناس عن ملكة معطوبة، وجهل مستحكم، وخلق دنيء. وهذه النوعية تعول على الحرية والحق ورفض الوصاية والنصح. وكم نود من المبدعين السرديين والنقاد المواكبين لهم أن يعرفوا حدود الحرية في القول وفي الفن، ومفهوم: الحكاية والخرافة والأسطورة، ومقتضيات الحبكة، ومتطلبات السرد، والزمن، والمكان، والشخصيات، لكي يحال بين الفن الرفيع وساقط القول. ولقد مرت بنا مقولات البرمين من ضوابط الفن، وبخاصة الشعر، حتى لقد بلغ المترخصون حد النثرية، وشاع مصطلح «قصيدة النثر» ووجد المجازفون من يبارك تجاوزاتهم التي ألغت فن الشعر، وخلطت بينه وبين النثر. ومعلوم أنه لا يضيق بالضوابط إلا من لا يتوفر على موهبة، ولا يضيق بالاحتشام والالتزام الأخلاقي إلا من لا يتمثل القيم الحضارية. وفي اطار استصحاب الحدود والقيود، نجد من يُحكم القبضة ويقدس الأنموذج، ويستمرئ مقولة: - «ما ترك الأول للآخر شيئاً» حتى لا يتمكن أحد من الحصول على الحد الأدنى من حقه المشروع في التفكير والتعبير، فيما نجد آخرين يلغون الحدود والقيود، حتى لا يعرف أحد حدود ماله وما عليه. وفيما بين الافراط والتفريط، تقوم الوسطية الراشدة، وذلك ما نسعى إليه، ونراه ضرورة في ظل الفوضويات التي أباحت المحظور. وإذ يوجه القرآن الكريم إلى ألا تجعل اليد مغلولة إلى العنق، ولا مبسوطة كل البسط، ويوجه بعدم الغلو في الدين، فإن عوالم الفن كعوالم المال والعبادة، لا بد لها من حفظ التوازن والوسطية. والمطالبون بتبسيط اللغة، لا يقبلون بالعامية، والمطالبون بتيسير الدين لايقبلون بالتحلل والمجون، والمجددون الحقيقيون لا يلغون ضوابط الفن، وخصوصيات الأنواع. وقبل التعالق مع الغرب، كان للأمة العربية سردياتها، التي غلب عليها سلطان الشعر، فأبقى عليها، كما كانت عند القصاص والمذكرين الشفهيين، وامتداد الشفاهية أضاع ثروة لا تعوض، إذ لم يتسع التدوين إلا للعلوم والمعارف والشعر. وجاء القرآن الكريم موظفاً القصص لأهداف تربوية، وبعد أمة جاءت «المقامات» و«الرسائل» التي تعتمد الخيال والحوار والشخوص والأحداث والأمكنة والأزمنة مؤسسة للفن السردي، وظلت حالة القصص مقموعة بسلطان الشعر، حتى نفذت سرديات الغرب ونظرياته الروائية والقصيية، وتمثلها المبدعون، واستقرت أشكالها، وتوارثتها الأجيال، وأصبحت بشكلها وشرطها، كما لو أنها جزء من التراث، ومثلما واكبنا الغربيين في التماثل، واكبناهم في التعبير، غير أن وعينا للتماهي أدق من تصورنا للتغيير.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved