العنوان الكامل لهذا الكتاب اللطيف: شكلاً وموضوعاً هو: حق التضحية بالآخر: أمريكا والإبادات الجماعية.
وقد صدر عن دار الريس للنشر بلندن في شهر يوليو من العام الماضي. وهو مكون من مئتي صفحة ذات حجم متوسط، مشتملة على مقدمة،وسبعة فصول، وملحقين، ثم نبذة عن المؤلف، وفهرس للأعلام والأماكن.
أما مؤلف الكتاب فهو الأستاذ منير العكش، الذي يعيش في واشنطن، ويصدر مجلة «جسور» ويكتب عن تاريخ الهنود الحمر، وعن ظاهرة الصهيونية غير اليهودية. وقد حاز على وسام أوروبا لحوار الحضارات عام 1983م.
وقبل الشروع في عرض بعض ما جاء في فصول الكتاب أستأذن القارئ الكريم في إعادة ما سبق أن قلته في احدى المقالات التي كتبتها بعنوان: «مواقف من حرب الغيظ في أفغانستان»، وقد نشرت تلك المقالة ضمن الكتاب الذي أصدرته لي دار العبيكان قبل عدة أيام من كتابتي هذه الأسطر بعنوان: خواطر حول القضية. ومستهل المقالة ما يأتي:
«بدأ تاريخ الأمريكيين المنحدرين من أصل أوروبي في مستقرهم الجديد (أمريكا) بجرائم فظيعة ارتكبوها ضد السكان المحليين المسمين بالهنود الحمر.
وكانت تلك الجرائم من أسوأ مادُوِّن في سجل تاريخ الإنسانية كلها.
وإذا كان الامريكيون قد استهلوا تاريخهم بمثل ذلك الاستهلال فإنه ليس غريباً أن تقف قياداتهم المتعاقبة منذ ما يزيد على نصف قرن مع الصهاينة الذين يحمل تاريخهم في أرض فلسطين المغتصبة وجوهاً شبه واضحة بتاريخ الأمريكيين، فكراً وممارسة».
وتاريخ الأمريكيين المعاصر لا يختلف جوهرياً في حقيقته عن تاريخهم عند بدايته في القارة الغربية من العالم، وإن اختلفت وسائل ارتكابهم التدمير الشامل للآخرين. ومن وجوه الاختلاف أن تاريخهم الأول كان تاريخاً تدميرياً استيطانياً - تماًما مثل تاريخ الصهاينة - فأصبح تاريخهم المعاصر تدميرياً غير استيطاني، لكنه مؤيِّد لجرائم كيان صهيوني تدميري استيطاني. وما أشرت إليه بإيجاز شديد في مقالتي المذكورة فصّلته كتابات علمية كثيرة. وممن فصَّله الأستاذ منير العكش في كتابه المتحدَّث عنه هنا.
جاءت محتويات الكتاب كما يأتى: مقدَّمة من سبع صفحات، ثم سبعة فصول عناوينها هكذا: الوباء البديع - هذا الجنس اللعين - من المتوحش؟ - كمائن الاتفاقيات - اقتل الهندي واستثن الجسد - المعنى الإسرائيلي لأمريكا - باراباس اليانكي. أما الملحقان فعنوان الأول منهما لماذا أبكي زوال شعبي؟، وعنوان الثاني الواهبون الهنود.
بدأ الأستاذ العكش مقدمة كتابه باقتباس فقرة من كلام مايكل إيغل، أحد الهنود الحمر، قاله سنة 1996م، ونصه:
«تاريخنا مكتوب بالحبر الأبيض. إن أول ما يفعله المنتصرون محو تاريخ المهزومين. يا لله ما أغزر دموعهم فوق دماء ضحاياهم، وما أسهل أن يسرقوا وجودهم من ضمير الأرض! هذه واحدة من الإبادات الكثيرة التي واجهناها وسيواجهها الفلسطينيون. إن جلادنا المقدّس واحد».
وقد نوَّه الأستاذ العكش بكتاب توماس مورتن، الذي عنوانه «كنعان الجديدة الانجليزية، ووصفه بأنه احدى الشهادات على ما ارتكبه المستعمرون الأوروبيون في أوروبا من حرب إبادة ضد السكان الأصليين من الهنود. وكان مورتن قد اعتقل ونفي إلى بريطانيا مرتين متهماً ببيعه أسلحة لأولئك الهنود، الذين قام حاكم ماري ماونت بإحراق منطقتهم كلها، وذلك - حسب تعليله - «لقطع دابر العادات الشريرة في أرض إسرائيل». والمراد بإسرائيل، هنا أرض أمريكا.ويشير الأستاذ العكش إلى أن عنوان كتاب مورتن يعبِّر عن روح فكرة أمريكا، التي هي الفهم الانجليزي التطبيقي لفكرة إسرائيل التاريخية، وإلى أن المستعمرين الانجليز سمَّو أمريكا أرض الميعاد، كما سمَّوها صهيون، وإسرائيل الله الجديدة وغير ذلك من الأسماء التي أطلقها العبرانيون القدامى على أرض فلسطين، وأنهم استمدوا كل أخلاق إبادة الهنود من هذا التقمص التاريخي لاجتياح العبرانيين أرض كنعان، وأنهم - كما يقول المؤرخ ليفنغر - أكثر يهودية من اليهود، إذ يعتبرون أنفسهم «يهود الروح» الذين عهد الله إليهم ما عهد إلى «يهود اللحم والدم» قبل أن يفسدوا. ثم يقول إن تلك اليهودية هي التي أرست الثوابت الخمسة التي رافقت التاريخ الأمريكي في كل محطاته وهي: المعنى الإسرائيلي لأمريكا وعقيدة الاختيار الإلهي، والتفوق العرقي والثقافي، والدور الخلاصي للعالم، وقدرية التوسع اللانهائي، وحق التضحية بالآخر.
وإذا كانت تلك الثوابت قد اتضحت وضوحاً تاماً - حسب الدراسات العلمية - عند بداية تاريخ الانجلو ساكسون الذين استعمروا أمريكا فإن تصرفات الولايات المتحدة الأمريكية الحالية توضح أنها ما زالت ثوابت مرعية مطبقة مهما أصبحت التسميات التي تتسمى بها.
وقد جعل الأستاذ العكش عنوان الفصل الأول من كتابه «الوباء البديع» وتحدث فيه عن الحرب الجرثومية التي استعملها الأوروبيون في حربهم ضد سكان أمريكا الأصليين حتى أبادوا أكثرهم، وأشار إلى أن الدراسات الجادة التي بدأتها جامعة كاليفورنيا في بيركلي تثبت عدم صحة ما تدَّعيه الجهات الرسمية في أمريكا من أن عدد أولئك السكان لم يكن يتجاوز المليونين عندما بدأ الأوروبيون استعمارهم لتلك البلاد. بل تقدِّر أن عددهم كان أضعاف ذلك عشرات المرات. وأشار الأستاذ العكش إلى أن أولئك المستعمرين كانوا يرون أن ما قاموا به يرضي الله، فنقل عن حاكم مستعمرة بليموث قوله:
«مما يرضي الله ويفرحه أن تزور هؤلاء الهنود وأنت تحمل إليهم الأمراض والموت. هكذا يموت 950 من كل ألف منهم، وينتن بعضهم فوق الأرض دون أن يجد من يدفنه، إن على المؤمنين أن يشكروا الله على فضله هذا ونعمته».
وقال الأستاذ العكش: إن الكتب المدرسية في أمريكا لا تبين أن موت الملايين من سكان تلك القارة الأصليين كان سببه الأكبر الحرب الجرثومية التي شنها عليهم المستعمرون الأوروبيون، وإنما تذكر ان ما حدث لهم كان قضاء وقدراً، أو مأساة يؤسف لها وإن كانت غير مقصودة ولا متعمدة، وإن من يتهمون أولئك الأوروبيين متحاملون كارهون للحضارة.
والادعاء الموجود في الكتب المدرسية الأمريكية عن جرائم المستعمرين الأوائل لأمريكا ضد سكانها الأصليين هو الادعاء نفسه الذي تدعيه الولايات المتحدة الأمريكية الآن. فالجرائم المتعددة التي ارتكبتها في أفغانستان - مثلاً - اُكتفي بالقول: انها كانت خطأ مؤسفاً غير مقصود، أو قضاء وقدراً.واختتم الأستاذ العكش الفصل الأول من كتابه بإيراد قول داروين المشهور: «حيثما خطا الأوروبيون مشى الموت في ركابهم إلى أهل البلاد التي يجتاحونها»، وقول هوارد سيمبسون في كتابه عن دور الأمراض في التاريخ الأمريكي، وهو «ان المستعمرين الانجليز لم يجتاحوا أمريكا بفضل عبقريتهم العسكرية أو دوافعهم الدينية أو طموحاتهم أو وحشيتهم، بل بسبب حربهم الجرثومية التي لم يعرف لها تاريخ الانسانية مثيلاً».
وأستودع الله القارئ الكريم إلى الحلقة القادمة
|