هناك من يتساءل عن سبب ضعف معدل إنتاج الفرد في المجتمع العربي، وهمينة مشاعر الكسل والملل عند العامل العربي، وإلى انعدام رغبته في الحفاظ على مكتسبات المؤسسة التي يتعمل بها، والعمل بدون كلل في سبيل نجاحها، ويرى أن السبب ربما يكمن في فقر الثقافة العربية لميزة الاهتمام بروح المؤسسة، وللخلفية الصحراوية في العقلية الإدارية العربية، وتأصل الرغبة في الخلاص من احساس عدم الأمن الذاتي، من خلال فرض سياسة المصلحة الشخصية قبل الجماعية، ووضع خطط الكسب الشخصي هدفاً للفرصة التاريخية التي وضعته على رأس هرم المؤسسة، وتلك إشكالية يصعب تحليلها على عجالة في مقال قصير، ولكنها رؤية قد تفسر تلك المشاعر التي لا أتوقف عن سماعها من أعضاء مؤسسات أهلية وحكومية، فالبعض يتحدث عن أجواء يومه في العمل بمرارة، ويشتكي من شيء ما، «يعكر» صفو أدائه العملي، ويؤثر على جودة إنتاجه، ويصف المصاب عادة أعراضه بانخفاض الحماس والرغبة في التطور والإبداع، وبتثاقل خطواته في رحلة الرواح الباكر إلى المؤسسة، وتسارعها في زمن العودة الى البيت، وانهزام طموحاته أمام ثقافة المحسوبية، وعلاقات العصبية والمحاباة في المكافأة، ويعزو ذلك الشعور السلبي إلى سد سبل الصعود أمامه لسبب أنه لا يستوفي شروط الكفاءة «الخفية» في امتحان العناصر المنحازة ضد عوامل الاجتهاد والمثابرة، ويذهب في تذمره. إن ذلك الشعور يهيمن على الكثير من موظفي المؤسسة، ويصيبهم بالانهاك والارهاق لأدنى جهد ذهني أو بدني، لتصبح علاقة الرضا في نهاية الأمر بين راعي المؤسسة ورعاياه، أداء الحد الأدنى من المطلوب عمله، وهذا لا يعني أن هناك من يحمل هذه المشاعر السلبية بلا سبب وجيه في حياته العملية، ولكنه الاستثناء الذي لا يؤثر على صحة دلالات ظهور علامات الكآبة على موظفي المؤسسة بسبب اختفاء الأجواء السليمة للانتاج والابداع.
وظهور هذه العلامات السلبية يشير إلى تأثر «روح» المؤسسة بالنموذج السلبي في الإدارة، وإصابته بحالة الكسل الذهني إن صح التعبير نتيجة لضعف ذاكرة المسؤول وضمور روح العمل، مما يؤدي في النهاية الى انهيارها ثم غيابها في المحيط العملي في المؤسسة، ويعود غالباً سبب الضمور الى اختفاء علاقات الموضوعية والابداع، الضرورية لإنعاش روح المؤسسة، وإلى استشراء علاقات المحسوبيات التي تشكلها عوامل الجغرافيا الاقليمية وصلات الرحم والصداقة، و«الثقة»، أو أي علاقة أخرى تدعم المصلحة الشخصية البحتة بغض النظر عن مصلحة الموسسة الجماعية، وهذا النمط من العلاقات السلبية، يحرم الموسسة من بناء قواعد ثابتة وعامة، وتقاليد حضارية تتوارثها الأجيال الجديدة، ويساهم أيضا ذلك النموذج الأناني في تنمية العسف وخرق القانون أو تجاوزه أو الالتفاف عليه تلبية لعاطفة أو لمصلحة ذاتية.
والروح المؤسسية تستمد حيويتها من تطوير أساليب متطورة ومعروفة مسبقا من الجميع، تسمح بالتالي إلى تراكم القيم التنظيمية وتقاليد العمل الجماعي، مما يؤدي الى استقرار المؤسسة بصرف النظر عن تبدل الأفراد المتعاقبين عليها، ويساهم كل ذلك في تثبيت القانون وتطبيقه واحترامه، ومحاكاة أساليب الإدارة الأفقية التي تختصر المسافة بين العامل المنتج والمدير التنفيذي، وكذلك إذكاء جو العمل بعبارات التشجيع على الإبداع والابتكار والتطوير، ومد النشاطات المنتجة بالعون المعنوي والبشري والمادي، ومحاسبة غير المنتج، وفرض سياسة الريجيم لإذابة الشحوم الإدارية المتنفذة.ويعود ضعف روح المؤسسة وضمورها، إلى ظهور طبقية، وازدياد مستويات الإشراف الإدارية العليا، وإلى ظهور منظومة الهرم المقلوب في إدارة العمل، لتصبح الأكثرية غير المنتجة تدير الأقلية العاملة، ويساهم هذا الوضع في نشوء طبقة «خاصة» تحرص على الحفاظ على مكتسباتها، والدفاع عن منافعها من تذمر وسلبية العامة أو الطبقة العاملة، والذين فقدوا روح العمل والإبداع والطموح في تسلق سلم المكافأة عبر ميكانيزم العمل الجاد لأجل تحقيق مهمة النجاح للمؤسسة، ويزيد من حالة عدم الثقة، استمرار الوضع الإداري بطبقاته الخاصة والعامة على نفس الحال، وتحول مهام الإدارة إلى تحصين حدود العلاقة بين الطبقات الدنيا والعليا بالبيروقراطية المركبة، وشغل أجواء العمل والإنتاج بالقرارات الثانوية وبكثرة اللجان. ومفهوم الخاصة في المؤسسة الحديثة أو الشركة، هو تلك المجموعة التي تربطها شبكة من العلاقات غير الواضحة، والتي يتم اختيار أعضائها حسب مقاييس محددة، قد لا تكون في بعض الأحيان مخططاً لها عن سابق قصد، والتي ربما تكونت بسبب عدم قدرة الإداري على رؤية الصورة السلبية للواقع، أو لضعفه واعتماده على عنصر الثقة في تأسيس خاصته الإدارية، ولكن هذا لا يعني وجود حالات اعتمدت ذهنية التخطيط المسبق لتحقيق المنفعة لمن يعزّ عليهم.
ويؤدي تكرار هذا النموذج السلبي في مؤسسات المجتمع، الى قبوله كواقع والاستسلام لقواه، ويزيد من الوضع سوءاً عدم وجود نماذج متجددة للمؤسسة الحديثة، وتقاعس وسائل الإعلام والمؤسسات الأكاديمية من أداء أدوارها في التحقيق والبحث عن أسباب إعادة تكرار انتاج إدارات الفشل في المجتمع، والظاهرة الأهم وراء هيمنة اختفاء روح المؤسسة هي أيضا غياب القدوة في القيادات الإدارية، ولعل السبب يعود لاستمرار بعض الإدارات والمجالس الإدارية لعقود، مما يقلل من فرص بروز قيادات جديدة، كما يقتل تداخل تلك العلاقات ومصالحها مع قوى الإعلام والمؤسسات الأكاديمية، بقية الأمل في عودة الحياة من جديد في جسد المؤسسة مما يؤدي الى حالة من الشلل الرباعي لأطرافها، لتدخل بعدها في حالة من الغيبوبة، ثم تبدأ الاستعانة بوسائل التنفس الصناعي لتمديد حياتها لفترة زمنية قصيرة، ومع تأكد خطورة حالتها وقرب نهايتها، إلا أن التبريرات لا تتوقف عن الزعم ان قلب المؤسسة ما زال ينبض، بالرغم من أنها «عصبياً» في مرحلة موت الدماغ التام.
|