Saturday 8th march,2003 11118العدد السبت 5 ,محرم 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الإعلام الرسمي يعجز عن مجاراة سياسته الخارجية.. الإعلام الرسمي يعجز عن مجاراة سياسته الخارجية..
المرأة الحديدية «الأمريكية» تتحطم على جدار الشرق الأوسط
د. علي بن شويل القرني (*)

تشارولت بيرز Charlotte Beers جاءت قبل حوالي سبعة عشر شهراً إلى وزارة الخارجية الأمريكية لتحقق هدفاً واحداً لإدارة الرئيس جورج بوش ووزير خارجيته كولن باول، وهو تحسين الصورة الذهنية للولايات المتحدة الأمريكية في الخارج، وخصوصا من قبل الجماهير العربية والإسلامية في العالمين العربي والإسلامي.. ولكنها لم تستطع أن تحقق هذا الهدف وفشلت فشلاً ذريعاً، اضطرها إلى أن تقدم استقالتها قبل أيام، مدعية أن ظروفاً صحية حالت بينها وبين استمرارها في منصبها وكيلة لوزارة الخارجية للدبلوماسية والشؤون العامة.. ويبقى لها أيام فقط وتسقط هذه الشخصية الإعلامية التي كان ينظر إليها كولن باول بأنها من أهم الشخصيات التي تعمل في فريق العمل الذي كونه للتعامل مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
تشارلوت بيرز هي شخصية من أهم الشخصيات الأمريكية التي انتظمت في مناصب إعلامية مؤثرة في الحقل الإعلامي.. وقد احتلت صورتها غلاف مجلة «فورشن» عام 1997م وأطلقت عليها المجلة «المرأة الحديدية.. أو أقوى امرأة في الولايات التحدة الأمريكية».. وقد تخرجت تشارلوت من جامعة جنوب غرب لويزيانا في الآداب، ثم تدرجت في مناصب إعلامية لشركات كبيرة إلى أن أصبحت رئيسة لإحدى أكبر شركات الإعلان في العالم Walter Thompson.. ومن الطريف في مشوارها الطويل حيث تبلغ اليوم 67 عاماً انها كنت مديرة لحملة إعلامية/إعلانية ناجحة لشركة أرز أمريكي شهير «أنكل بينز».. وهذا ما رسخ في ذهن وزير الخارجية الأمريكي عندما كان يقدمها ويدافع عنها بعيد تعيينها في منصب إعلامي كبير وكيلة له في شؤون الإعلام قائلاً بأنه لا مانع لديه من أن يعين امرأة نجحت من خلال شهرتها في بيع سلعة استهلاكية.. «الرز».. ولا سيما أن عملها الجديد هو محاولة بيعها سلعة - اسمها الرأي العام العربي والإسلامي - إلى الإدارة الأمريكية.. أو ربما من وجه آخر بيع رسائل وقيَّم سياسية أمريكية إلى العالم العربي والإسلامي..
ومضت السيدة بيرز في جهودها الحثيثة التي حاولت من خلالها أن ترسم صورة إيجابية عن الحياة الأمريكية والقيم المثالية وتصديرها إلى العالم العربي والإسلامي.. وقد أعطيت - تقريباً - حسابا مفتوحا لإنجاز هذا العمل الحاسم في تاريخ الدبلوماسية الأمريكية.. حيث منحت ما يقارب المليارين من الريالات لأداء ما يمكن تسميته بالمهمة المستحيلة.. وجندت الصغير والكبير، والسياسي والمفكر، ونجوم هوليوود ورجال ونساء الشارع الأمريكي من أجل بناء رسالة أمريكية مؤثرة في الرأي العام العربي والإسلامي.. وفي مهمتها استطاعت أن تجند حتى الرئيس الأمريكي لخدمة هذا الهدف وطلبت منه أن يذهب إلى المساجد الإسلامية في الولايات المتحدة، ويزور مدارسها، ويلتقي بنخب عربية وإسلامية من أجل أن يلتقط العالم العربي والإسلامية رسالة واحدة فقط هي أن أمريكا هي «صديقة الإسلام والعرب والمسلمين..» وأن هذا المجتمع هو مجتمع مسالم يحتضن كل الشعوب والديانات ولا يميز بين جنس وآخر أو دين ودين آخر.. وفي محاولة لصناعة مضامين لذة الرسالة أنتجت برامج تلفزيونية، وطبعت مطويات وكتيبات كثيرة، وبلغات عديدة.. وأسست إذاعات موجهة إلى العالم العربي، وأضافت مضامين جديدة لإذاعات قائمة.. وحاولت أن تكرس رسائل معينة يتم ترديدها في خطابات ورسائل الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته من أجل كسب ود الحكومات والشعوب العربية والإسلامية.. ثم وظفت شخصيات عربية ومشاهير الرياضة والفن من الأمريكيين والعرب من أجل ترديدهم لرسائل هذه الحملة العالمية.. ثم ابتدعت فكرة المواطن العربي الموجود على الأرض الأمريكية من أجل أن تجسده نموذجاً للتسامح الأمريكي مع كل الشعوب والأديان، وأعدت حلقات عن نساء ورجال «أطباء ومحامين، وإعلاميين وخبازين..» عرب عاشوا ونجحوا في المجتمع الأمريكي.. وجاءت هذه السلسلة من الحلقات إلى تلفزيونات وإذاعات وصحف الشرق الأوسط.. فانطلت الحيل الدعائية على محطات تلفزيونية شهيرة فبثتها، وعلى صحف عربية شهيرة فنشرت استطلاعات بنفس محتواها الدعائي.. ولكن هناك دولاً رفضت رسمياً وتجارياً أن تبث هذه الدعايات الفاضحة الموجهة إلى شعوب المنطقة.. ونذكر من بين هذه الدول مصر ولبنان على سبيل المثال لا الحصر التي رفضت بث هذه الدعايات لكونها دعاية سياسية فاضحة، وذات أهداف أيديولوجية صارخة.. وقد أشار وزير الإعلام اللبناني الأستاذ غازي العريض إلى أنه لم يستطع أن يسمح ببث حلقات عن تسامح أمريكي للشعوب والأديان كما تصوره حلقات وبرامج الدعاية الأمريكية بينما أن العرب والمسلمين في الولايات المتحدة يعانون من أقسى ويلات التنكيل وأقذر حالات التميز العنصري.. لكل العرب والمسلمين بدون استثناء لا لشيء إلا لكونهم عرباً ومسلمين.. فكيف له أن يجيز هذه المادة الدعائية بينما تعمل السلطات الأمريكية ما يشبه معسكرات الاعتقال والتمييز التي صنعتها الولايات المتحدة لليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية.
نعم، لقد حاولت تشارلوت وفريق الإعلام الأمريكي في سفارات الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي أن تصور القيم المثالية في الحياة الأمريكية بينما يقرأ ويشاهد ويعيش الناس والعالم تحطيما لهذه القيم والمثاليات على أرض الواقع.. على الصعيد الأمريكي وليس أدل على ذلك من معاملات الأسرى العرب والمسلمين في جزيرة جوانتينامو التي رفضت الولايات المتحدة حتى إعطائهم امتيازات الأسرى حسب الأعراف الدولية، وتعاملهم بوحشية لم تمر في حياة البشرية إطلاقاً رغم كونهم أو بعضهم موجوداً هناك بدون وجه حق أو أدلة صريحة في اعتقالهم.. حاولت السيدة بيرز أن تقلب الواقع الذي يعيشه العالم ويعرفونه عن أمريكا ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، إلى عالم متخيل قريب من المدن والحياة المثالية التي يتصورها البشر عن الملائكة كحياة وأسلوب موجود اليوم في المجتمع الأمريكي.
هذا ما كانت تتمناه وتريده السيدة بيرز، ولكنها اعترفت أخيراً وعبر جلسات مداولات في الكونجرس الأمريكي انها فشلت في مهمتها، وذكرت بالحرف الواحد، أن هناك فجوة كبيرة بين مفاهيم «من نحن، وإلى أين نريد أن نصل.. من ناحية، وبين أين نحن في الواقع من ناحية أخرى..» أي أنها أرادت أن تقول إن هناك فجوة ضخمة وهائلة بين الواقع الذي تعيشه الولايات المتحدة - بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر - وبين الواقع الذي تريد اليوم أن تصوره عن مجتمعها وقيمها وسياستها.. وهذه هي الأسباب الحقيقية للفشل الذريع الذي أحاط بعملها في تحسين صورة أمريكا في العالم العربي والإسلامي.
وهي تعرف جيداً أن هذا التناقض الكبير بين وجه جميل تدعيه أمريكا لها، وبين وجه قبيح يراه العالم عن هذه الدولة.. وهي تعرف أن مجرد تصريح الرئيس بوش بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي ارئيل شارون هو رجل سلام، كان بمثابة سقوط هائل ومدوي لمصداقية الرئيس الأمريكي والإدارة الأمريكية، بل المؤسسة الأمريكية.. ونحن نشاهد يوميا وعلى شاشات التلفزة العربية والعالمية والأمريكي تدمير منظم للإنسان الفلسطيني بدبابات وطائرات وأسلحة وذخيرة ومعونات أمريكية.. وتتبعها تصريحات «طبطبة سياسية» على أكتاف شارون.. هذه الآلة التي يصفها بوش بأنها إنسان يحب السلام ويناشد السلام.. يريد الرئيس بوش أن يصنع لدى العالم معان جديدة تجعل التدمير سلاماً، والتعذيب تسامحاً، والمعاناة حبا. وقد حاولت السيدة الإعلامية الأولى في الولايات المتحدة أن تصنعها، ولكنها أخيراً اعترفت بفشلها.

(*) رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال أستاذ الإعلام المساعد بجامعة الملك سعود

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved