اليوم بينما تتحول الأنظار في الساحة الدولية لسعي امريكا الى خلع رداء الارهاب عن العراق بخلع نظامه تُسرق أرواح الفلسطينيين في محاولة لتصفية وتهجير نشطاء المقاومة والقضاء على الانتفاضة، والعراق عندما يشتد الضغط عليه يوجه شعار حربه للدفاع عن فلسطين وهو في نفس الوقت ونتيجة الضغط الدولي عامة والامريكي خاصة كان قد بدأ بمسلسل تنازلاته وها هو يصل لحد تدمير صواريخه الباليستية «الصمود2» بعد ان اهدر مقدرات بلده البشرية والمالية لامتلاك مثل هذه الاسلحة.
بيدو أن بذرة الكبر والطاغوت هي كروموسوم صبغي كامن في خلايا الانسان، ومسؤولة عن إخراجه عن طور انسانيته «في حال توفر الظروف الملائمة من قوانين وأساطير وتعاويذ وخنوع وقابلية للاستعمار» فتنمو وتتطور كما يحدث مع الجراثيم التي تنمو بتوفر مرتع وظروف بيئية مناسبة ومحددة، والتطهير النفسي من آفة الكبر والطاغوت يتم بمطهرات العقيدة والمؤسسات الديمقراطية للدولة وفشل المطهرات لا يعني ابدا قصور العقيدة او الديمقراطية فهل اذا ضُرب الكتاب برأس أجوف وصدر صوت أتكون علة الصوت الصادر دوماً من الكتاب؟
أحد أهم الادوار الوظيفية للمؤسسات الديمقراطية في المجتمع المدني هو تقييم وفرز الفشل عن النجاح لذلك تعمل هذه المؤسسات كبوصلة للعدل وبدون تفعيل دورها وحكم القانون تبقى هذه المؤسسات مشلولة وعندما يكون الشخص هو الحاكم والقاضي بنفس الوقت فإنه لا يعترف ابداً بالفشل ويجر شعبه الى الهاوية بل يغوص بين المبررات اللا شرعية التي تُثقله هو وشعبه الى القاع، وما يجري اليوم في العراق خير دليل، فما فعله صدام بشعبه وأمته وعائلته لم يترك مجالاً للشك بأن الطاغية لا ينفك يُلبس النصر بالهزيمة والحق بالباطل وهو لا يرى ولا يسمع إلا ما يريد وأن الخوف «بشقيه: الخوف على كرسي الحكم ومن المحكوم» هو ظل الطغيان، وبساط جبروت صدام مُحاك بوبر خنوع من حوله، وذلك بعد أن أحاط صدام نفسه بأجهزته الأمنية الغولية التي وُجه نشاطها للداخل وأخذت تتضخم ذاتياً بسرعة وهذا يذكرنا بما حدث في قصة الراعي الذي فقد قطيعه، فقد فكر مرة راع شديد الحرص والظن والخوف على قطيعه، أن خير وسيلة لحماية الأغنام هي الإكثار من عدد كلاب الحراسة وكان في كل مرة يزيد العدد حتى اضطر في الأخير الى أن يُطعم نصف قطيعه لكلاب الحراسة، ولا اعتقد ان صدام مرتاح وقد ترملت بناته على يديه واغتال الكثير من أعوانه وأقاربه ورش شعبه بدل العطر سموماً بيولوجية وكيماوية ليمحق كلمة ورؤوس المعارضة من قاموس حكمه، ودمر اقتصاد البلاد حتى بات خيرة العراقيين بالملايين لاجئين مهجرين في اصقاع الأرض، وبات الجوع وسوء التغذية يحصد اطفال العراق، وغُيّب العراق في ظلام التاريخ لأكثر من ربع قرن وما زال في غرفة الانعاش المفصول عنها تيار الحياة الذي ترفده محطات الثقة سواء بين الحاكم وشعبه وبين البلد وجيرانه وباقي دول العالم، ولكن النظام العراقي كان يستمد اسباب البقاء من عقيدة السلاح فقط ونسي المثل الصيني القائل: «ثلاثة أشياء أساسية في المجتمع: السلاح والخبز والثقة فإذا أردنا الاستغناء عن واحد رمينا السلاح وإذا أردنا الاحتفاظ بواحد كانت الثقة لأن الناس عاشت بدون خبز إلى حين ولكنها لم تعش قط بدون ثقة».
ورغم القنبلة الإماراتية في القمة العربية بشرم الشيخ مؤخراً والتي تمثلت بالمبادرة بالدعوة الصريحة لتنحي القيادة العراقية عن الحكم مع ضمانات قانونية لحمايتها وإصدار عفو عام عن الشعب العراقي في الداخل والخارج وإشراف الجامعة العربية بالتعاون مع الأمم المتحدة على العراق في الفترة الانتقالية لتجنيب الأمة ويلات الحرب إلا ان القمة أبطلت مفعولها وجمدتها. وقد قال الشيخ عبدالله بن زايد «وزير الإعلام الإماراتي» مدافعاً عن مبادرة دولته: «إن تنفيذ المبادرة لن يعطي أي حجة لأي جهة أن تهاجم العراق»، وأردف يقول: «إن العرب لا يريدون أن يؤيدوا الحرب بصورة علنية، كل العرب مؤيدون أن صدام لا بد أن يغادر لكن لا يوجد أحد لديه الجرأة ليقول ذلك. ونحن بصدد البحث عن مخرج عربي يحل القضية عن طريق الجامعة العربية ولكن للأسف لا الجامعة العربية ولا القادة العرب عندهم القدرة أن يخاطبوا العرب بهذه الجرأة وهذا الوضوح. وعلَّق ايضاً قائلاً: ان العرب لم يرفضوا هذه المبادرة، بل رفضوا مناقشتها لأنهم يرون أن هذه سابقة خطيرة ولكن هذه السابقة الخطيرة للأسف لا تنطبق إلا على النظام العراقي. النظام العراقي يعاني الويلات التي اصاب بها العالم العربي في العقدين أو الأكثر السابقين على العرب وعلى العالم وعلى العراق وعلى جيرانه وهو ما لم يحققه أي قائد عربي». إن منطق السياسة يقول من سيجرؤ على ذلك، فقد ضمن الدعوة لنفسه لاحقاً، وأبدت القمة في قراراتها موقفها الرافض للحرب وشكلت ترويكا من وفد تونسي لبناني بحريني مهمته التحرك الدبلوماسي المكوكي لمنع الحرب وحشد الرأي العالمي.
إن عدم اتزان السياسة الأمريكية ضرب اسفين الخلاف مع اوربا العجوز «على حد التعبير الامريكي» في شرعية حربها على العراق، والولايات المتحدة الامريكية في سعيها للحرب تسعى لتغيير وجه الخارطة السياسية للمنطقة «بثوب سايكس بيكو جديد يخرجه شارون بوش»، وقد تباينت مؤخراً تصريحات كولن باول «وزير الخارجية الامريكي» بتصريحه في بداية الشهر الحالي: «أن لدى الولايات المتحدة الامريكية هدفاً واحداً في مساعيها الجارية حول الأزمة العراقية وهو نزع سلاح بغداد طبقاً لقرار الأمم المتحدة 1441، وقال الفكرة القائلة بأننا نفعل ذلك لإعادة ترتيب كافة دول الشرق الاوسط ليست صحيحة»، فيما يتضارب هذا التصريح مع تصريح سابق له في السادس من فبراير وأمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ حين قال بما يفيد أن النجاح في العراق قد يبشِّر ويضمن بداية فجر الديمقرطة الغربية وقد يعيد ترتيب هذه المنطقة جذرياً، بطريقة ايجابية تخدم المصالح الأمريكية ولاسيما إذا تحقق السلام في الشرق الاوسط وذلك طبعاً بتأمين تدفق الذهب الاسود إلى خزانات وقودها من صنبور المنطقة دون انقطاع. وكان الرئيس الامريكي جورج بوش قد أقر أن إقامة نظام ديمقراطي في العراق سيكون صعباً وأن هذا الأمر يشكل شرطاً لضمان أمن الولايات المتحدة الامريكية وقد قال «سيكون من الصعب المساعدة على إحلال الحرية في بلد شهد ثلاثين عاماً من الديكتاتورية والشرطة السرية والانقسامات الداخلية والحرب، لكن أمن بلادنا وآمال الملايين من الاشخاص رهن بنا، والأمريكيون لا يتهربون من واجباتهم لمجرد أنها صعبة وأمريكا مصممة على العمل لتطبيق مطالب مجلس الأمن الدولي عبر مواجهة الخطر الكبير والمتزايد الذي يشكله الرئيس العراقي وأسلحة دماره الشامل» وأردف أيضاً «لن نسمح لهذا الديكتاتور بتخويف العالم المتمدن وابتزازه او نقل اسلحة فظيعة الى مجموعات إرهابية لن تتردد باستخدامها ضدنا، أمن الشعب الامريكي رهن بعزمنا وعلينا وضع حد لهذا التهديد».
إن الأيديولوجية الامريكية لصقور الحرب لا تبالي بالوعورة السياسية الداخلية للمنطقة و«لاسيما القضية الفلسطينية الشائكة والمعلقة» والخارجية منها، حيث تزج أمريكا نفسها في مواجهة مع حليف الامس مما يمكن ان يفضي بالمواقف للدخول في مخاض سياسي وفكري وعقائدي يؤدي إما الى موت أجنة الديمقراطية في المنطقة أو الى ولادتها مشوهة لأن التاريخ يعلمنا أن الحرب لم تفرد يوماً أشرعة العدالة بقدر فردها لأشرعة المصالح، ولم تكن الحرب يوماً وكما ذكرت سابقاً ضرورية ولا عادلة، ومناهضو الحرب اليوم لا يسألون امريكا القيام بعمل يخالف طبيعة حملتها على الارهاب بقدر ما باتوا يسألونها القيام بعملها الطبيعي ولكن بشكل مختلف.
|