على مدى تواصل حلقات هذا الموضوع كنت مأخوذاً بالدعوة الملحة لتوجيه الجهود نحو إعمال الجهود للكشف عن الآثار المطمورة في باطن هذه الأرض، التي هي بلاشك من أوائل البقاع التي استقر فيها الإنسان بعد ان أصبح التوجه نحو تأسيس صناعة السياحة في بلادنا واقعاً ملموساً لما في وجود هذه الآثار من رافد مستديم لهذه الصناعة فضلاً عن تأصيل كثير من الحقائق التاريخية التي لاتزال تقع في دائرة النص المكتوب الذي يخضع للتأويل.
وقد أخذ الحديث في اضمامة حلقاته مداه إلى مناحٍ أخرى مما له صلة بالموضوع كتأصيل الأسماء التاريخية التي طمست بعض أسمائها واستبدلت بأسماء مولدة ليس لها معنى مما يجعل في إحياء تلك الأسماء التاريخية دلالة مهمة على الخصوصية والتميز وهو مكون تراثي مهم تلجأ إليه الدول في تأطير صناعتها السياحية وعلى القدر نفسه من الأهمية جرى الحديث عن طرق التجارة القديمة التي كانت فيما بين مدن الجزيرة العربية واتخاذها مظهراً لتأصيل جانب مهم في صناعة السياحة وهدفاً من أهدافها مما يعرف الآن بإقامة مواسم «السفاري» في الصحراء ومثل ذلك العودة إلى تجديد بعض أسواق العرب المهم وما أكثرها في الجزيرة العربية ومن أهمها -كما هو معروف -سوق عكاظ.
وإذا كنت على مدى حلقات هذا الموضوع قد طرحت نماذج لما يمكن ان يكون هدفاً من أهداف السياحة كمورد مستديم لهذه الصناعة فإن ذلك لا يعدو ان يكون سوى أمثلة يجري عليها مايمكن ان يكون هدفا مهماً من تلك الأهداف في أنحاء لا تقل أهمية عما ذكرته إن لم تفوقها في الأهمية وما ذكرت تلك الأمثلة إلا لأنها تقع في دائرة اهتمامي ومما يمكن ان أتحدث عنه لاتصالي المباشر بمصادرها وهذا يعني عدم التقليل من مناطق غاية في الأهمية في بلادنا كمورد مهم من موارد السياحة.
وعلى سبيل المثال فإن المنطقة الشرقية في بلادنا تمثل نموذجاً مهماً في هذا المجال لشراء مكوناتها الآثارية والتاريخية وهي من المناطق التي كانت مجالاً لدراسات وأبحاث مبكرة - ولكنها على حد علمي قد توقفت أو أنها أقل مما يمكن ان يسفر عنه مزيد من البحوث والكشوف الأثرية المهم وهي من المناطق التي تتميز بوفرة المصادر الدالة على أهميتها التاريخية والأثرية ويحضرني من تلك المصادر كتاب تاريخ الأحساء المسمى تحفة المستفيد بتاريخ الأحساء في القديم والحديث للعلامة الشيخ محمد بن عبدالقادر الإحسائي الذي صدر عام 1379ه - 1960م وكتاب «تاريخ هجر» لعبدالرحمن بن عثمان آل ملا (الطبعة الثانية 1411ه - 1991م) و«ساحل الذهب الأسود» ل محمد سعيد المسلم (1382ه - 1963م) ثم ذلك العمل الموسوعي المهم لعلامة الجزيرة العربية الراحل حمد الجاسر «معجم المنطقة الشرقية» الذي أصدره في أربعة أجزاء ضخمة سنة 1399ه - 1979م.
وما تلك إلا أمثلة لمصادر عن منطقة مهمة من بلادنا امتلكت الحيازة التاريخية منذ قديم الزمان وكانت موئلاً لحياة الإنسان في عصور تاريخية موغلة لتميزها البيئي من حيث وفرة المياه ولوقوعها كمركز من مراكز طرق التجارة القديمة ولوجودها مطلة على سواحل البحر وليس أدل على ذلك من قيام مدينة تاريخية عظيمة اندثرت هي مدينة «الجرعاء».
وفي هذا المجال يجب التذكير بالدعوة التي أطلقها علامة الجزيرة العربية لتأليف معجم جغرافي لبلادنا وهي الدعوة التي أعلنها في افتتاحية مجلة «العرب» (الجزء السادس، السنة الثانية 1387هـ - 1968م) وجاء في صدرها:
«الحاجة إلى معجم جغرافي حديث يتضمن أسماء مدن بلادنا وقراها ومناهل البادية فيها لا تقف عند حد الباحث المتعمق بل تشمل كل قارئ ذلك ان المؤلفات الجغرافية الشاملة عن بلادنا لاتزال مفقودة فهناك مدن وقرى حديثة وهناك منها ماهو قديم ولكن كتب الأمكنة التي ألفت قديماً لم تذكر جميع الأمكنة التي في بلاد العرب لأن أكثر مؤلفيها كانوا بعيدين عن الجزيرة وقد ألفوها والعرب قابعون في جزيرتهم والصلات بهم تكاد تكون معدومة فكان المؤلفون يعتمدون على كتب لم يحاول مؤلفوها حصر الأمكنة بل أكثرهم لايقصدها بالتأليف وإنما أورد ما أورد منها عرضا حينما يحاول شرح نص أدبي أو إيضاح معنى بيت من الشعر وقد ألفت هذه الكتب في عهود متقدمة فدخلها التحريف والتصحيف ولما جاء ياقوت وأمثاله ممن حاولوا تحديد المواضع وحصرها لم يجدوا أمامهم عن الجزيرة سوى تلك الكتب التي دخلها التحريف فاتخذوها أساساً لما كتبوا عن بلاد العرب ولهذا جاء كثير منها غير صحيح وهذا القول لايقلل أهمية المؤلفات القديمة فأصحابها بذلوا الجهد وقدموا ما يستطيعون تقديمه فاستحقوا التقدير على عملهم ولكن أصبح العبء في عصرنا الحاضر من هذه الناحية يقع على المثقفين من أبناء البلاد أنفسهم.
«إننا بحاجة إلى ان نجد بين أيدينا معجماً يوضح لكل قارئ الصورة الصحيحة للنطق باسم هذه المدينة أو القرية أو المكان ثم الموقع ثم ما يستطاع ايضاحه من حيث حدود ذلك الموقع وبيان جهته في الإقليم أو المقاطعة مع الإشارة بطريقة موجزة إلى تاريخه القديم ان أمكن».
وقد أثمرت هذه الدعوة عن استجابة عدد من رموز الإحياء في ثقافتنا المعاصرة من جيل الرواد فكان أول المستجيبين لهذه الدعوة مؤرخ جازان الراحل «محمد بن أحمد العقيلي» الذي أعد معجماً عن «مقاطعة جازان» الذي صدر في عام 1389هـ - 1969م وهو عمل ما كان لينجز لولا ان قيض الله له مثل هذا العالم الباحث الذي أخلص لحياته ولبلده وهو الذي ألف عنها عملاً رائداً ونادراً عن هذا الإقليم بعنوان «تاريخ المخلاف السليماني».
ثم تتابعت الاستجابة لهذه الدعوة نحو تأليف معجم جغرافي للبلاد العربية السعودية فقام العلامة والأديب الرائد «عبدالله بن خميس» وهو ابن بجدتها كما يُحب ان يقول- بإصدار «معجم اليمامة» في جزءين (1398هـ - 1978م) وربما اتهم بالعاطفة والتحيز -أو كما قال علامتنا الراحل حمد الجاسر -«إن الكتابة التي لها صلة بالمجتمعات تتأثر كثيراً بالعواطف والرغبات الخاصة» إذا اعتبرت هذا العمل موسوعة في مجاله، فلقد أفاض فيه مؤلفه من سعة علمه، وطغيان روحه كشاعر وأديب بأن جعله كتاباً في كل شيء عن هذا الإقليم وهو الذي رصد الطرق بين اليمامة والحجاز في كتابه المهم «المجاز بين اليمامة والحجاز» ولايقل عن تلك الأعمال موسوعته الأولى في بابها عن «جبال الجزيرة» الذي صدر منه ثلاثة أجزاء -حتى الآن على حد علمي -وأتمنى ان يمد الله في عونه فيكمل باقي أجزاء هذا العمل المهم كما ان كتابه الموسوعي «تاريخ اليمامة» يعد تتويجاً لمشروعه الثقافي في هذا المجال وتذكرنا ريادات هذا الرائد العالم بكتابه الرائد «الأدب الشعبي في جزيرة العرب» (1378هـ - 1958م) الذي لا أعلم سبباً يدعو إلى عدم إعادة طبعه حتى الآن.
كما اختص الباحث المدقق وغريم ابن خميس الاستاذ «سعد بن عبدالله بن جنيدل» بعمل اعتبره لايقل بأي حال عن سابقيه بل إنه لأول مرة يتم توثيق المواضع والبلدان والأماكن في عالية نجد، منذ عهد «ياقوت الحموي» و«الهمداني» و«الأصفهاني» و«ابن بليهد» في عمل كالذي أعده باقتدار الجنيدل في «معجم عالية نجد» الذي صدر في ثلاثة أجزاء وصدر سنة 1398 - 1978.
أما «ابن بطوطة النجدي» العلامة الشيخ «محمد بن ناصر العبودي» وهو الرحالة الذي طوّف في بلاد الله وألف أعمالا عن رحلاته، وأفاض فيها من سعة أدبه وعلمه، فقد ألف «معجم بلدان القصيم» وهو عمل ضخم في ستة أجزاء أحاط فيها بكل مايتعلق بهذا الإقليم، راصداً ومحققاً لكل ما هو قديم وحديث في هذا الجزء المهم من بلادنا وقد صدر هذا العمل الضخم سنة 1399هـ - 1979م.
وقد حظي «شمال المملكة» -وهو جزء مهم من الناحية التاريخية والأثرية- باهتمام علامة الجزيرة العربية الراحل «حمد الجاسر» حيث خصص له من مشروع المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية، معجماً شاملاً هو «معجم شمال المملكة» محتوياً على بلدان: حايل والجوف وتبوك وعرعر والقريات وصدر في ثلاثة أجزاء ابتداء من سنة 1397هـ - 1977م.
وقد أشار في مقدمة هذا المعجم إلى ان المناطق التي تقع في الشمال الغربي للمملكة سيفرد لها جزء آخر يقوم الاستاذ الدكتور «عبدالله الوهيبي» بتأليفه ولا أعلم- حتى الآن- هل صدر هذا الجزء أم لا.
وبالإضافة إلى هذا المعجم عن شمال المملكة فقد أصدر العلامة الراحل كتاباً عن رحلاته في شمال المملكة أصدرها في كتاب يعتبر من أهم -بل لايزال هو الوحيد -عن هذا الجزء المهم من بلادنا صدر بعنوان في شمال غرب الجزيرة في عام 1390هـ احتوى على مشاهدات للظواهر الأثرية والجغرافية والاجتماعية في وادي السرحان، قريات، الملح، والجوف (دومة الجندل) الشعيبة والجار (ميناء الحجاز) في بلاد خيبر، تيماء وآثارها، بين تبوك وعمان.
ولم تقف جهود هذا الراحل العلامة عند هذا الحد، فيما يختص بمشروع المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية الذي حمل الدعوة إلى تأليفه بل تصدى لوضع معجم شامل أسماه «المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية بمثابة مقدمة لهذا المشروع الشامل احتوى على أسماء المدن والقرى وأهم موارد البادية وقد أصدره لأول مرة في طبعة تجريبية عام 1397هـ - 1977م وصدر في جزءين ثم أصدره بعد ذلك في ثلاثة أجزاء.
ومما أحب ان أذكر به انني لست في هذا المجال اتحدث عن تراث هذا العلامة في خدمة تاريخ وجغرافية هذه البلاد وجغرافيتها وهو مما لايستساغ في مثل هذه العجالة وإنما الحديث ينصب على ذكر إسهامه الثقافي مما يمكن النظر إليه كتراث نظري للمكون الثقافي للسياحة وإلا فمشروع هذا الرائد يحتاج إلى أبحاث ودراسات مطولة تتسم وحجم تراث هذا العلامة.
وبالتالي فإن محور هذا الموضوع يدور حول نسق من منظومة المصادر لبعض الرواد المعاصرين في مجال البحث التاريخي وجغرافية الأمكنة والبلدان مما يمكن اعتباره عنصرا مهماً في محصول التنمية الثقافية السياحية وكنت قد أشرت على مدى حلقات هذا الموضوع لنماذج من تراث القدماء الرواد الأوائل.
وبعد ان بدأت طلائع هذا المعجم تظهر إلى حيز الوجود تتابعت جهود الباحثين من أبناء هذه البلاد -كما أسلفت الإشارة إلى ذلك - ومن أجزاء هذا المعجم مما كان قد صدر معجم «بلاد غامد وزهران» وضع مادته الاستاذ «علي بن صالح السلوك الزهراني» صدر سنة 1391هـ وهو إضافة جديدة عن جزء لم ينل نصيبه من الأبحاث والدراسة وتأتي أهميته من ان هذه البلاد تعتبر بيئة سياحية مهمة للتنوع البيئي الذي تمتاز به هي ومنطقة عسير التي أخذت وضعا ممتازاً على خريطة السياحة الداخلية ووضع الاستاذ «عاتق بن غيث البلادي» معجماً عن بلاد الحجاز كما يجب الإشارة إلى جهود رائد من رواد الصحافة والأدب والبحث التاريخي هو الأستاذ الراحل «عبدالقدوس الأنصاري» الذي أصدر «مجلة المنهل» التي صدرت اعدادها الأولى في المدينة المنورة عام 1355هـ - 1936م وبعد ذلك في مكة المكرمة ولاتزال مستمرة في الصدور محققة بذلك مالم تحققه أي مجلة عربية بانتظامها في الصدور دون انقطاع هي ومجلة «الهلال» المصرية. وهي -كما يقول -الزركلي -سجل الحركة الأدبية في هذه البلاد. ويمكن ان يضاف كتابه المهم عن «مدينة جدة» كجزء مهم في هذا السياق حيث يؤرخ لهذه المدينة التي تعتبر من المدن التي مازالت - رغم عصريتها- تتصف بزخم الخصوصية حيث تتسق فيها الأصالة والمعاصرة وأيضاً لا أعلم سبباً يحول دون إعادة طبع هذا السفر المهم.
قبل ان نطوي هذه الحلقة من هذا الموضوع لابد من الإشارة إلى مكون ثقافي مهم لم اتطرق إليه وهو «أيام العرب» إنها مظهر تاريخي كأسواق العرب في تاريخ هذه البلاد وهي كثيرة ومثلها كذلك «دارات العرب» وأشهرها دارة جلجل، التي ذكرها امرؤ القيس ودار الندوة التي امتد اثرها بعد عصر النبوة.
وعلى صعيد ما أنجز من جهود علمية في مجال البحث والكشف الأثري لابد من الإشارة إلى الجهود التي تمت فيما يتعلق بمدينة «الفاو» القديمة التي قام بها عميد الآثاريين الاستاذ الدكتور «عبدالرحمن الأنصاري» والجهود العلمية التي قام أحد رواد البحث الأثري والمسؤول الآن عن الآثار في بلادنا الدكتور «سعد الراشد» فيما يتعلق «بدرب زبيدة».ولذلك حديث آخر يفرد ويبسط لأهميتهما في المكون السياحي وسوف يكون محور الحديث وسؤاله المهم: أين الفاو الآن وأين الطريق إلى درب زبيدة؟.
|