* جدة خالد الفاضلي:
تندثر مدينة جدة في ليالي وايام العطلات الاسبوعية وأقنعة توحي ان عروس البحر الاحمر تستعد للذهاب الى حفلة تنكرية، وتمارس زواياها طقوس أتت من بلدان افريقية وآسيوية دون حقائب او بوصلة ترشدها الى طريق العودة.
تتمرد ملامح كل الامكنة في جدة على طبيعتها بمجرد رحيل شمس الاربعاء، وتنتصب مسارح تلقائية عديدة كلها تكتظ بجمهور يطبق المثل اللبناني «متصالح مع نفسه»، و«عقليته «تهضم» كل فصول مسرح الواقع وربما صفق لها، او مر بجوارها بشفة تتعجب.
المشهد الاول
يتهافت على ابواب قصور الاغنياء نساء تؤكد روائح عطور واحاديث انهن بنات جلدتنا، يأتي بهن ازواجهن واخوانهن على سيارات تقترب من قصور الاغنياء على استحياء، وتتوقف في ركن مظلم قصي، ثم تنسل منها عباءة او اكثر محشوة باجساد عجائز يتنافسن ايهن اقرب للباب الكبير.
يشي الرصيف الفاخر الممدود امام القصر العظيم ان هؤلاء النسوة يخنقن انفاسه مع نهايات كل اسبوع، ويتسابقن نحو سيارة فارهة تحمل فتاة رقيقة تسكب الدراهم في ايادي كل عجوز تجيد شد قلب كل عانس بدعوات من فئة «الله يرزقك ابن الحلال، الله يجعلك باللي في بالك، الله يجعله من نصيبك»، تتناصر اجساد «الشحادات» او «المحتاجات» امام ابواب الاسوار العالية، بجوار رجال مدججين بسمار افريقيا، يراقبون باشمئزاز وجوهاً لشباب تنكروا لنعمتي الصحة والانتماء لهذا البلد، وسحقوا كرامة نسائهم تحت جدران الاثرياء، يعودن بقليل من الدراهم وكثير من المهانة في عيونهن وقلوبهن.
المشهد الثاني
يتكاثر على ضفاف شوارع جدة كهول اكل عليهم الدهر القاسي وشرب، وترك اثار انيابه على ملابس رثة تحيط باجساد مكتومة على كراسي متحركة لايجلس عليها الامعاقون او مدعون.
يجلس معاقو جدة ايام العطلة الاسبوعية على زوايا طرقات تؤدي الى اسواق شهيرة او قصور اغنياء الزمان والمكان، او يختارون «منطقة وسطاء» بين القصور وعلى نواصي الشوارع الصغيرة حتى لايفوتهم في ذات الوقت خير العابرين، ثم يحنون رؤوسهم نحو الارض، يمسحون وابصارهم احذية المانحين، بينما تشق اياديهم كبد الفراغ انتظاراً لريالات تتساقط.
المشهد الثالث
ينمو فجأة بين طرقات جدة، اثناء ايام العطلات الاسبوعية، سيارات توحي ان سكانها ينتمون لبارونات اوروبا لولا همسات من بعض رجال المرور في اذن «الجزيرة» تكشف ان غالبية الشباب يتبخترون بسيارات مستأجرة من شركات «تأجير» تمتهن بيع البذخ المؤقت بعدة مئات من الريالات في اليوم الواحد مقابل المشي مرحاً في شوارع التحلية والكورنيش على سيارات لاتستطيع حظوظهم نيلها «لكزس، فياقرا، بي.ام.دبليو»، يتحول كورنيش جدة في ساعات المساء الباكر الى قطار من سيارات فاخرة وقادرة على تكرار مسرحية «الكورنيش رايح جاي»، وتطبيقاً للمثل الشائع «حلل قيمة التأجير»، بينما لايتجاوز نصيب «الأكشاش» المتناثرة مبلغ عشرة ريالات من كل سيارة.
المشهد الرابع
ينتشر في مواقف المراكز التجارية والمقاهي شبان ينعمون بصحة جيدة تؤكد انهم يأكلون الاخضر واليابس في بلدان آسيوية تمتد من متون جبال الهملايا وتورا بورا الى سواحل تغرق كل سنة تحت فيضانات بنقلادش، وعندما «زفتهم» اقدارهم الى حياة البطالة في جدة تدثروا برث الثياب، حملوا في ايديهم قطع قماش يمسحون بها زجاج السيارات حينما يقف بها صاحبها وهم يرددون «أنا مسكين، أنا مسكين».
يحاول «المسكين» انتزاع خمسة او عشرة ريالات من جيوب رجال تجتاحهم رهبة الحرج امام زوجاتهم واطفالهم، وعندما ينهره احدهم يتمتم «المسكين» بكلمات شامتة تحتوي قسوة حجارة جبال القوقاز.
المشهد الخامس
يطبق اطفال اشارات المرور خطط طوارئ اعادة انتشار في ايام الاربعاء، الخميس، الجمعة، وينسحبون من مواقعهم عند اشارات المرور الضوئية، ثم يتكدسون على ارصفة الكورنيش وبوابات الملاهي.
يرابط عشرات الصغار برفقة صغيرات في مواقف سيارات مرتادي الملاهي، يسرقون الفرحة من عيون اطفال خرجوا للتو من ضوضاء العاب خطرة جعلتهم لايستطيعون مقاومة انطلاق احاسيس الشفقة وبالتالي ارغام الآباء على دفع تكلفة الرحمة «برش ريالات» على باعة صغار يجمعون الدراهم من الساعة الخامسة عصراً الى الثالثة فجراً ثم يكسبونها في احضان عصابات اتت بهم من بلادهم بنظام السخرة كما اشارات مجموعة من الدراسات الامنية، في حين اشارت تصريحات متعددة على لسان جهات حكومية وخاصة مهتمة بمكافحة التسول الى ان الباعة الصغار يخضعون لعمليات تجنيد وتفويج منظم، وانهم يعيشون في مساكن تشبه الثكنات العسكرية، ويتم التعامل معهم بصفة المجندين والمجندات المؤطرين بسياج فكر عسكري يسحق طفولتهم منذ ان تتعلم اقدامهم ابجديات المشي.
|