فيما يتعلق بتحليل «فيلبي» لاسم «فرزان» وانها قريبة من «فرسان» التي تعني «الفرس» فهو تعليل بعيد عن النطق العربي لأصل الاسم ولاشك انه وقع تحت إغراء قرب النطق الحالي ل «فرزان» بالفتح ولمع في ذهنه قربها من كلمة «فرسان» النطق الانجليزي الذي يعني «الفرس» وهي مواربة بعيدة وإلا فأصل اسم «فرزان» هو «الفرزة» كما جاء ضبطها في «معجم البلدان» لياقوت الحموي مادة «الفرزة» وفي المعجم الوسيط (الفرزة) شق يكون في الغِلَظ وهذا المعنى اللغوي ينطبق على عين فرزان من حيث هي شق في تجويف صخري وهو ما ينفى عنها أي صلة بالمعنى الذي أشار إليه فيلبي وقد ذكرت بضم (الفاء) «الفُرزة» ويبدو أنه لم يكن قد اطلع على أهم كتب البلدان العربية ومنها «معجم البلدان» و«صفة جزيرة العرب» مع ان أوروبا قد عرفت «معجم البلدان» سنة 1866 و1873م على يد المستشرق «فرديناند فستنفلد» كما نشر كتاب «صفة جزيرة العرب» سنة 1884م بعناية المستشرق «مولر».
وعلى أي حال فإن مجمل آراء «فيلبي» تلك كانت في مُقبل حياته وعهده بالجزيرة العربية -وكان عمره آن ذاك اثنين وثلاثين سنة - وهو الذي انخرط بعد ذلك في الترحال والبحث فيما يتعلق بالجزيرة العربية ولابد ان كثيرا من آرائه تلك قد تغيرت ومع ذلك فهو يقول إن ما ذكره ليس سوى اجتهادات تعوزها الوسائل التي تساعد في الكشف عما يكتنفها من أسرار وغموض وهو ما أنادي به في هذه المقالات.
وأثناء تجواله في الخرج (1918) يقول:
«وترجلت لأرضي نفسي بما توصلت إليه وكوفئت على هذا لقد ظهرت الأحجار وقد صفت في دوائر وبداخل هذه الدوائر ركام من أحجار وبقايا لاحظت من بينها قطعاً Lumps من مواد بيضاء تشبه الملاط mortar ربما كانت جبساً (جصاً) ان هذا ينبئ يقيناً على عمل بشري في بعض عصور بعيدة ربما كانت مقبرة لا تشبه المقابر الحديثة رغم ان الموقع أكثر مايكون شبها بمكان لإحدى المدن القديمة وسر طبيعتها وتاريخها وما حاق بها من نكبة مطمور - ربما - في ثنايا خرائبها». (ص441).
وها نحن نرى إلى أي حد، أهمية الكشف الأثري عن الآثار وما يمكن ان يترتب عليه غياب هذا الكشف من حيرة تولد اجتهادات يعول عليها الباحث دون ان تكون حقيقة علمية مؤكدة وفي تعليق آخر على ما ذكره «فيلبي» نفسه يؤكد - فيما له صلة بهذا الموضوع - تأويلات لباحثين آخرين لازالت تفتقد الدليل العلمي.. حيث يقول فيلبي:
«لقد تركت الطريق مفتوحا أمام الاجتهادات حول هذه الخرائب التي كتبت عنها - في الأساس - في بواكير سنة 1919م فلم تكن هناك وسائل استطيع بها الكشف عما يكتنفها من أسرار وغموض لكن مستر.د.ج هو جارث Hogarth أظهر بما لا يدع مجالا للشك أنها ليست بقايا قرية أو مدينة وإنما بقايا مقابر فالمواد المكومة على الأساسات الحجرية تعرضت لعوامل تعرية (بتأثير المناخ) فكشفت عن هذه الأساسات الحجرية
(Vide J.R.G.S.,march,
1920)
ووافق هوجارث على انها ربما كانت تنسب إلى عناصر غير عربية لكنه تمسك بالقول بأنه من خلال الأدلة الموجودة أمامنا لايمكننا ان نحرز تقدما إيجابياً، فالقول بأن هذه الآثار ذات أصل فينيقي قول نجد صعوبة في قبوله في ضوء معلوماتنا الحالية. وكان هذا الفرض مما قال به سير توماس هولدش Holdich لوجود شبه بين خرائب الخرج وآثار كشفت عنها الحفائر في البحرين كان قد قام عليها (أي حفائر البحرين) تيودور بنت Bent ووصفها في الجمعية الجغرافية الملكية في سنة 1890 R.G.S., January, 1980 لكن مستر هوجارث ذكر ان هناك اعتراضات تحول بيننا وبين قبول فرض بنت Bent الذي مؤداه ان تلك الآثار التي كشفها في البحرين ذات أصول فينيقية
(انظر j.r.g.s., december, 1920, pp.463-4).
ولقد اعتاد بعض الباحثين ومنهم المستعربون من الغرب -كما اسلفت- على إنكار انه ليس للعرب حضارة قبل ظهور الإسلام ومن أبرز هؤلاء عالم اللغات السامية الشهير «رينان» الذي قال إنه لم يكن لجزيرة العرب شأن في القرن الأول من الميلاد ولم يظهر بأسها وبسالتها إلا بعد القرن السادس من الميلاد.. والغريب ان يصدر هذا الرأي من عالم الساميات الذي يعرف ان العرب في جذورهم البشرية هم أمة من الأمم السامية التي كانت لها حضارتها في بلاد مابين النهرين والتي عرفت بفضل الكشوف الأثرية وهو الأمر الذي لاتزال أواسط الجزيرة العربية لاتعرفه. وعلى أي حال فقد دحض بطلان رأي «رينان» العلامة «جوستاف لوبون» الذي قال: «هذا الرأي فاسد أول وهلة ولو لم نعلم شيئا عن ماضي العرب فإن أمكن ظهور حضارة أمة ولغتها بغتة على مسرح التاريخ لايكون هذا إلا نتيجة نضج بطيء، فلايتم تطور الأشخاص والأمم والنظم والمعتقدات إلا بالتدريج وان ظهور الحضارات على مسرح التاريخ لا يأتي إلا ثمرة ماض طويل (غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص87).
أما هؤلاء القوم المتمدينون الذين ينكر فيلبي أنهم ليسوا من أصول عربية فهم ليسوا إلا أمة من الأمم العربية البائدة الذين ظهر أول ذكر لهم في القرن الخامس قبل الميلاد وهم قبائل طسم وجديس. وإنهم نسق طبيعي من التدرج التاريخي الذي ينطبق عليه قول «لويون» فضلا عن ان المدونات التاريخية القديمة والحديثة لم تسجل غزوا خارجيا استقر في وسط جزيرة العرب خلا ما أصاب حدودها الشمالية بل ان عظماء الفاتحين من مصر وأغارقة ورومان وفرس وغيرهم لم ينالوا شيئاً من جزيرة العرب التي أوصدت دونهم أبوابها (حضارة العرب، ص93).
والحقيقة انه ما من سبب يحمل هؤلاء الرحالة، الذين يتصف بعضهم بالحياد العلمي، وبعض المستشرقين على هذا الزعم غير غياب الكشوف الأثرية مما ساهم في حجب فترة هامة من تاريخ هذه البلاد فليس من المعقول ان تكون هذه المناطق استثناء من مناطق قريبة منها تم فيها الكشف الأثري وأثبتت انها من المناطق التي ازدهرت فيها حياة البشر وأقاموا فيها حضارة استطاعت البحوث التاريخية تأصيلها بعد ذلك.
مما لاشك فيه ان كثيرا من مناطق هذه البلاد قد تعرضت وفي فترات تاريخية موغلة لعوامل بيئية وظروفاً مناخية قاسية لقد كانت هذه البلاد مهداً لرسالات دينية، أرسلت لبشر كانوا يعيشون فيها فكيف كان هؤلاء البشر يعيشون؟
إن المتدبر لما ورد في القرآن الكريم، سيجد خبر أولئك القوم الذين أرسل الله إليهم رسله، ألم تكن مدائن صالح شاهداً حياً على ذلك؟ ألم يأت خبر قوم عاد وارم ذات العماد وثمود وأصحاب الرس وأصحاب الأخدود والأحقاف؟.
|