1/ قد لا يَسبق استعراضي للصحافة صباح كل يوم أيُّ فعل قرائي، بحيث آوي إلى فراشي بعد قراءة جادة، قد تمتد إلى الهزيع الأخير من الليل، ثم لا أعود إليها قبل الاستفتاح بصحف الصباح. وفي كل يوم أجد على مكتبي أكثر من عشرين مطبوعة، ما بين صحف محلية ومهاجرة وعربية، ومجلات أسبوعية وشهرية ودورية، ومطبوعات وزارية، قد تكون بعدد الوكالات والإدارات العامة في الوزارة الواحدة. وأمام هذا الكم أباشر القراءة الاستعراضية العجلى للعناوين البارزة أو الجانبية، ثم أعود لما علق بالذهن من مقالات أو دراسات أو تحليلات أو أخبار مزعجة أو مبهجة في الفكر والسياسة والأدب، لأقرأه على مكث، فأستل ما أريد، لاستدعائه متى دعت الحاجة إليه.وفي كل يوم أصاب بالذهول، وينتابني شيء من الخوف جراء ما أقف عليه من حوادث وجرائم وكوارث تجتاح العوالم: العالمية والإسلامية والعربية والمحلية. وأقول في نفسي عما تقع بين ظهرانينا: كيف يحصل هذا في بلد يطبق الشريعة، ويتوفر على قطاع أمني قوي، وتقوم مناهجه على التربية الإسلامية، وتقام فيه الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، الأمر الذي يحفزني على التساول عن مكامن الخلل، فلما نزل نسمع عن قتل الأبوين أو التخلي عنهما في ساعة العسرة، أو انتهاك المحارم، وعن السطو والسرقة والرشوة، وحوادث المرور، التي يغيب فيها الموت أسرة بكاملها، وعن ترويج المخدرات، وارتكاب المحرمات. كل ذلك يمر بنا، وكأنه مخيال برع في صياغته مبدع موهوب.
ومما لا خلاف فيه أن هناك نسبة من الكوارث والحوادث والجرائم متوقعة، لوقوع مثلها والرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهر المسلمين، من حرابة وسرقة ورشوة وزنا وخمر وإفك. وحصولها في حدود المعقول لا يثير الانتباه، لأنه ما من مجتمع صاخب، يشكل اقتصاده وتنميته أرضية جذب مغرية إلا وكان له نصيب من المنغصات، وكيف لا تتفاقم المشاكل، وفوق أرضه سبعة ملايين وافد، وحدوده مسرح للتسلل الفردي والجماعي المنظم، والمتخلفون من الحج والعمرة بمئات الآلاف، والمواطئون والمتسترون من ضعفاء النفوس يفوتون فرص الانضباط. ولست ممن يتطلع إلى مجتمع ملائكي، ولكن الأمور حين تتجاوز النسبة المعقولة، أو حين تقع الجرائم أو تنفذ بشكل بشع، أو تتكرر بشكل مثير، يكون هناك مشروع تساؤل ومتابعة وتفكير في كل الأوضاع، ليس فقط فيمن اقترف الذنب، ولكن فيمن حفز الأسباب، وفيمن وضع الحلول ونفَّذها.
ولكي أكون «رقمياً» في لغتي، فقد استعرضت الصحف الصادرة يوم الخميس 19/12/1423هـ وتتبعت الحوادث والكوارث والجرائم بوصفها حصاد يوم أليم، ليس بأقل إيلاماً من أي يوم سلف أو خلف. ومثلما أن للمجتمعات الفقيرة مشاكلها، فإن للمجتمعات النفطية مشاكلها، وحتى نوع الأمراض وأساليب الحياة: «وكل من لاقيت يشكو دهره» وما سأعرض له عينات تتكرر، ولكن بصيغ مختلفة.
2/ فكان أولى الحصاد التغطية الصحفية في جريدتي «الجزيرة» و«الرياض» وغيرهما لتشييع جنازة وكيل الإمارة ب«الجوف» المغدور، كخطوة ثانية بعد اغتيال قاضي المستعجلة في مكان واحد، وتحت ظروف غامضة متشابهة، وتلك سابقة لا مثيل لها، فلم يكن أهل هذه البلاد عدوانيين، ولم يكن القتل سهلاً، فالمسلم يعرف أنه حين يقتل مؤمناً متعمداً فإن جزاءه نار جهنم خالداً فيها. والتساؤل الملح: ما الدوافع؟ وهل مثل هذه الجرائم ناتج خلل في التربية، أو خلل في الأمن، أو خلل في الأداء. نحن لا نشك أن استشراء القتل أو السطو ناتج خلل، ومن واجبنا أن نواجه أنفسنا به، أياً كان مصدره: تربوياً أو سلطوياً أو أمنياً، وإن لم نفعل رمت الجروح على فساد، وبان منها إهمال المسؤول، ولست أشك أن رجال الأمن جادون في متابعة الحدث، والبحث عن خيوط الجريمة، وليس من الحصافة ممارسة المهمات تحت عدسات التصوير لإشباع الفضول، غير أنا مع كل ما نحن فيه من ثقة واطمئنان، يأخذنا ما أخذ إبراهيم عليه السلام، حين قال لربه: ) رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (البقرة:260)
، ولربما كانت «الشفافية» بوصفها منهجاً حضارياً سبباً من أسباب اطمئنان القلب، بيد أنها كشفت عن أشياء، ما كنا نعرفها من قبل، ومن ثم وجدت الصحافة نفسها أمام مثيرات تستقطب بها القراء، بحيث تركت الحرية لكامراتها ومتابعات محرريها، كي ينقبوا في البلاد عن أي كارثة أو جريمة لتقديمها إلى القراء وجبة غير شهية، ومثل ذلك يدفع بالمواطن إلى الاحتقان والتوتر. و«الشفافية» في نظري، ليست وقفاً عند حد معرفة «دراماتيكية» الحدث، «الشفافية» تعني: أن يعرف المواطن كيف حصل الحدث ولماذا؟ وكيف تمت مواجهته؟ ومن الطرف الضالع فيه؟ وهل قطع دابره؟ فالجزاء وحده غير كاف، متى تُركت مخرجاته، تستعد لإنجاز جريمة أخرى، والشاعر الحكيم يقول:
لا تقطعن ذنب الأفعى وتتركها
إن كنت شهماً فأتبع رأسها الذنبا
|
وأهم معرفة يتطلع إليها المواطن: كيفية المواجهة والعلاج، وهل تلقفت وزارات «التعليم العالي» و«المعارف» و«العمل» و«الشؤون الإسلامية» و«الإعلام» ملفات القضايا، والتفت حول بعضها للتحليل والدراسة والتقويم ووضع الحلول؟ فالمشاكل لا يعالجها رجل الأمن بإزالة آثارها، وإنما بالعمل على قطع دابر أسبابها، ومواجهة كل الأطراف الضالعة فيها، ذلك أن الحياة تقوم على عقد بين طرفين، فأي إخلال في العقد تنشأ عنه جنايات وكوارث وجرائم. وعلينا إزاء هذه الأحداث ألا ندع أي جهة أو شخص فوق المساءلة والنقد، ولا يمكن تلافي الأخطاء بالتعذير، والدفع بالحدث إلى مجهول، أو القول: بأن العملية تمت بنجاح.
3/ وفي حصاد اليوم متابعة لحادث قتل الجندي «علي يحيى دعسيس» رحمه الله، وكنا من قبل قد قرأنا عن حوادث مواجهات مسلحة لرجال الأمن، تمكن فيها المجرمون من فتح ثغرات، أو اهتبال ثغرات مفتوحة من قبل والهروب، وإن تم القبض عليهم فيما بعد. وتعريض حيوات رجال الأمن للقتل وسمعتهم لحديث المجالس، يحتاج إلى مراجعة، فالمداهمات أو التحريات حين لا تكون بمستوى الجريمة، يتولد منها جرائم أخرى، أشد نكاية منها. والمداهمات يجب أن يخطط لها، وأن يتوفر الأفراد على وسائل أمن ووقاية، تمنع تعريضهم للإصابات القاتلة، وتمنع انفلات المجرم من محاصرتهم، ولعلنا سمعنا ما حصل عند مداهمة «الشقق المفروشة» في الرياض، وتمكن المطلوبين من النفاد بأنفسهم، بعد قتل وإصابات، ولو أن هناك خططاً دقيقة محكمة مدروسة لما حصل ما حصل، وحتى لو حصل تبادل لإطلاق النار، لما تمكن المجرمون من اختراق الأطواق المحكمة، فمن الذي جازف، ومن الذي اتخذ القرار بالمداهمة، دون احترازات وأطواق أمنية، تحول دون نفاد المجرم بجلده؟ ومن الذي عرَّض رجال الأمن للإخفاق؟ سؤال مشروع، وممكن الحل في المستقبل، والغلطة إذا أفادت تعد درساً توعوياً.
4/ وفي حصاد اليوم اصطدام سيارة ب«جمل» يذرع الطرق، ووفاة شخص «الرياض ص12» وفي كل يوم تقع حوادث مماثلة، و«الجمال» السائمة تسرح وتمرح قريباً من الخطوط، وتُرى رأي العين من العابرين ورجال المرور وأمن الطرق، وما من أحد اتخذ موقفاً رادعاً، فلماذا لا يتخذ قرار بمصادرة المواشي السائمة حين تقترب من الطرق بمسافة لا تزيد عن خمسمائة متر، وذبحها، وتقديم لحومها للجمعيات الخيرية، ومن راجع فيها، يحمَّل تكاليف المصادرة والذبح والتوزيع، ولو اتخذ مثل هذا القرار، لكان كل مالك للمواشي السائمة رجل أمن وجندي مرور. و«من أمن العقاب أساء الأدب»، ويكفي تجهيز سيارة شحن برافعة تابعة للمحافظات أو لمراكز أمن الطرق، تقوم بمسح الطريق بين الحين والآخر، وتقتنص كل ماشية تقترب منه، مع توعية خطية للعابرين، تذكر بمهاتفة أمن الطرق، متى شوهدت المواشي مقتربة من الطرق.
5/ ومن حصاد اليوم «الرياض الصفحة الأخيرة» «الإمارات تصدر جوازات سفر خاصة للصقور» ويعد هذا الإجراء الأول من نوعه في العالم، ولما يكن هذا الخبر هو الوحيد الذي يبادر به الخليجيون، فلقد سمعنا عن «خيول» و«جمال» و«تيوس» و«حمام» تباع بالملايين. وتابعنا مهرجانات تستنفر فيها كل الجهود لمثل هذا النوع، ومن حق كل عاقل رشيد أن يتساءل عن هذا التبذير والإسراف في مدخرات الأمة وكنوز الأجيال، ومتى يعرفون أن المبذرين كانوا إخوان الشياطين؟ وإن لم يعرفوا فلا أقل من أن يستتروا، ولا يعرضوا أنفسهم للغيبة؟ و«رحم الله امرأً كف الغيبة عن نفسه». والذين أفاء الله عليهم بالأموال من واجبهم أن يرعوا نعمة الله، وأن لا يعطوا صورة سيئة عمن لم ينالوا خيراً. وإذا أوسع الله على أحد منهم، فعليه أن يتبنى مشروعاً: علمياً أو إنسانياً، يدرأ به عن نفسه وعن بلاده مكر الله، وفي الحديث: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء»، وها نحن نرى طائفة من المحسنين، تبدي الصدقات أو تخفيها.
6/ وفي الصفحة الأخيرة من الرياض أيضاً «إطلاق نار على حافلة تقل فريقاً طبياً في حائل» والحدث صدر من أحداث أربعة، يستقلون سيارة. والسؤال: من أتاح الفرصة للأحداث كي يحملوا السلاح، ويعرضوا أنفسهم للقصاص، لو أن هذه الرصاصة الطائشة استقرت في موقع قاتل من جسم إنسان بريء. أليس هذا التسيب مسؤولية الأباء والمعلمين ورجال الأمن، إن حمل السلاح أولى خطوات الجرائم، وإذا كان لا بد من حمله، وعلى أضيق نطاق، فليكن للرجال العقلاء، وفي المواقع المخيفة، بحيث لا يسمح بحمله في المدن والأسواق والمدارس والجامعات والمساجد وسائر المواقع العامة، ومن و جد معه سلاح صودر وسجن وغرم. والله شرع الحدود، وأباح التأديب، ومن رغب عن سنة الرسول فليس منا، وليس من مقتضيات الحرية الشخصية، ولا من متطلبات حقوق الإنسان ترك الحبل على الغارب، لا بد من الأطر والأخذ على يد السفيه.
7/ وفي الصفحة الأخيرة من جريدة المدينة «القبض على ثلاث طالبات مدمنات في الخميس» وبالتحليل تبين تعاطيهن المخدر منذ فترة طويلة، وتلك كارثة الكوارث، وطامة الطوام، فكيف وقعن في المخدر؟ وكيف حصلن عليه؟ وهل الوصول إليه بهذه السهولة؟ بحيث تتمكن طالبات ثانوي من استعماله وخلال مدة طويلة. وكيف تتفشى الظاهرة، ولقد تذكرت اعتراض المجالس التشريعية لمطالبة «كلينتون» رفع ميزانية مكافحة المخدرات، بحيث تتجاوز الأربعة مليارات دولار، لعدم تحقيق أي تقدم من المكافحة، على الرغم من الميزانيات الباهظة والإمكانيات الضخمة.
ونحن في بلادنا نقتل المهرب والمروج، ونعالج المتعاطي، وتلك طرائق سليمة، ولكن المخدرات وآثارها لما تزل بازدياد. فما نقطة الضعف بعد تنفيذ أشد العقوبات؟ أهي في الإجراءات أم في الجزاءات؟ إننا بحاجة إلى أن نسأل، وأن نبحث عن الحلول الجذرية التي تحسم الإشكالية، أو تضعها في الحجم المقبول. ولا أحسب الذين يُقتلون لمجرد أنهم هربوا الهيروين المركز في أحشائهم كاف لحسم المشكلة، المشكلة أكبر من الأحشاء والأدبار. إن علينا أن نضع مركز معلومات لهذه الظاهرة القاتلة، وأن نضطلع بإجراءات حاسمة، تحول دون تفشي المشكلة بشكل مخيف، ومن الأفضل أن نمسك الخيط من بدايته، حتى نصل إلى الضالعين بالتهريب. ولما كانت المخدرات وكر الجرائم وأم الخبائث، كان علينا أن نراهن على حسمها، وألا تأخذنا الرأفة ولا الرحمة. فالمخدرات تدمير للأمن والاقتصاد والصحة، وإذا قطع دابرها، رجعت مؤشرات الجرائم إلى الوضع الطبيعي. ولن أمضي مع بقية الكوارث والجرائم، فالأمة العربية تعيش تحت أزمات قاتلة، وما الحرب التي تتدفق معداتها وعددها ورجالها من كل صوب إلا أم الكوارث، وفي «الاقتصادية» توقع خسارة ستين مليار دولار للبنوك العربية وحدها، لو قامت الحرب، فأين منا الرجال والنساء والأطفال والثروات الظاهر منها والباطن؟ ومع هذا لا نجد أية بادرة عربية لمواجهة الاحتمالات السيئة، وتلك مصائب جسام، ليس لها من دون الله كاشفة.
|