بعد أن خرج أبو عبدالعزيز على التقاعد لم يجد ما يكفي من الحماس لبدء حياة جديدة تتصل بالإدارة. فكر مرة أن يفتح مكتب عقار ولكن شروط إدارة المكتب لا تنطبق على خبرته في إدارة مرفق حكومي، أول شيء سيواجهه أبو عبدالعزيز أن عدد الفراشين في مكتب العقار لا يتعدى شخصاً واحداً، وفي أغلب الأحيان لا يكون هذا الفراش سعودياً، وأبو عبدالعزيز لا يتخيل إدارة بلا فراشين، كما أن أساس الإدارة هو مراقبة حضور الموظفين وغيابهم، وفي مكتب العقار لا يوجد موظفون سواه، هل يراقب نفسه؟ فكر في وظيفة شريطي سيارات ولكنه وجدها شبيهة بالأولى لا علاقة لها بخبرته.
راتب أبو عبدالعزيز التقاعدي سبعة آلاف ريال ثمرة تفحيط أربعين سنة، في كل مجلس يقول: انه أعاد للدولة من الميزانيات التي كانت تحت يده مبلغ ثلاثمائة مليون ريال، ويذكر أن الحسومات التي أوقعها على الموظفين من زملائه تتجاوز عشرة ملايين ريال، ويضيف عندما يكون في مأمن من الآذان الغريبة أنه هو الذي صرف على الوزارة لا العكس. على فكرة أبو عبدالعزيز رجل طيب لا تعرف روحه التمرد أو الاحتجاج، يسير جنب الساس ويمتثل بسهولة للقواعد المقررة وينفذ التعليمات والتعميمات ويصغي للنصائح المتنوعة.
عندما أصيب بالسكر نصحه الأطباء بالكف عن هذا وعن هذا وهو من تعود سنوات طويلة إلا يمر أسبوع دون أن تغوص يمناه في أمتان المفاطيح. اختل البرنامج الذي رعاه سنوات طويلة: في الصباح فول أو شكشوكة وبعد الدوام كبسة تفوح منها رائحة اللحم المطبوخ بشدة، أما العشاء فكل ما تيسر من أكل خفيف أو ثقيل.
أحس أن روح القيادة في داخله أخذت في الضمور فالقائد الحق لا يسلم أمور جسده لغيره، ولكن هذا هو الزمان بعد الستين تكثر الزيارات للأطباء فانتبه أخيراً أنه كان يعالج على حسابه. قال مرة واحدة في مجلس آمن: لماذا لا يصرفون للمتقاعدين بدل علاج، ولم يكررها مرة أخرى.
منذ أن ترقى إلى وظيفة مدير ترك بيته في أم سليم واشترى سيارة أمريكية وكف عن العلاج في مستشفى الشميسي، ليس من المناسب أن يعالج هو أو أبناؤه في مستشفى حكومي. لم يتخيل أن يتدافع مدير إدارة مع الخدامات والسواويق وزملائه الفراشين وصغار الموظفين في أسياب العيادات الخارجية لهذا المستشفى المتداعي، وبعد أن راحت السكرة وجاءت الفكرة أي بعد أن أحيل إلى التقاعد أحس أن هذه الرفعة الإدارية أرهقته مالياً. نصف راتبه صار يذهب للعلاج.
لولا أن الطفرة عبرت حياته لانتهى في حلة ابن نصار أو السبالة، صدفتان أمنتا له بيتا: الصدفة الأولى وجود البترول في المملكة، والأخرى مروره مرة في شارع الخزان حيث شاهد الناس تتزاحم وتبين أن هناك، مساهمة عقارية، كان يسمع عن المساهمات في الأراضي، لا يعرف حتى الآن كيف اتخذ قراراً وزل لهم خمسة آلاف ريال أثمرت في النهاية قطعة أرض صغيرة في حي الملك فهد. انتظر حتى أسست الدولة البنك العقاري وبنا عليها الفلة التي يعيش فيها الآن والتي سوف يموت فيها بالتأكيد.
سافر مرة واحدة إلى لندن في رحلة علاج على حساب الدولة قبل أكثر من عشرين سنة. رفضت أم عبدالعزيز السفر معه إلى لندن إلا إذا تعهد أن يلبس كنادر هناك، حاول ثنيها عن قسمها ولكنها أصرت. لم تكن أم عبدالعزيز تعرف أن لبس النعال في لندن تصرف غير حضاري بالنسبة للانجليز. فهدفها لم يكن بروتوكوليا أو اتيكيتيا، ولكنها تعرف أن لندن مدينة لا يتوقف عنها المطر حتى في الصيف.
رغم أنه لم يف بوعده إلا انها عادت من لندن سعيدة، في كل (جمعة) نسوان كانت تمدح لندن. لم يلفت نظرها التمدن أو التسوق أو بهاء الحرية على وجوه الناس. لكنها لاحظت بسعادة أن شوارع لندن كأنها مفصلة على نعال أبو عبدالعزيز.
البقية بعد غد الأربعاء
فاكس: 4702164
|