يحب الرئيس عاداته الخاصة كثيرا، كالانفراد بنفسه بعد الظهر، بالخصوص في الأوقات الصعبة والحرجة، المهمة الدبلوماسية و«الحرب»، يقوم بهما «دومينيك دي فيلبان»، بحيويته الكبيرة، وقدرته الدبلوماسية التي أعجب بها «شيراك» ذات يوم قائلا عنه دي فيلبان حيوي إلى درجة أنه يتعب من هم حوله أحيانا ربما هي الحيوية التي جعلت منه وزير الشؤون الخارجية.
عندما قرر الرئيس شيراك رفض الحرب على العراق، كان يعرف أن موقفا كهذا لن يكون سهلا ولا بسيطا، ولا هينا، لأنه سوف يضعه في الصورة الأمامية للحرب نفسها، ليس كرئيس يرفض «حريقا في الخليج» فقط، بل كرئيس وقف في مواجهة القوة العظمى: أمريكا، حيث لم يكن أحد يعتقد أن ثمة من يستطيع الوقوف في وجهها، ولا حتى «جورج بوش» الذي قال: إنه ذهل حين سمع بقرار فرنسا الغريب! هل كان موقف الرئيس لأنه يرفض الحرب على العراق، أو لشيء آخر؟ سوف نحاول هنا الرد على هذا السؤال..
جاك شيراك يردد كل مرة للمحيطين به، وللوفود الأجنبية القادمة، وللصحفيين، نفس الجملة: «لا شيء يبرر اليوم حربا على العراق»، كل يوم يمضي، يبدو له انتصارا يثبت من خلاله أن الجولة لم تنته، عكس ما يردده الحلفاء الرسميين للولايات الأمريكية المتحدة، فإن كان الرئيس الأمريكي يؤمن بالحرب، فعليه خوضها لوحده «يقول الفرنسيون».
يراجع الرئيس الفرنسي حساباته كل يوم، ويعيد مراجعتها من جديد، كل يوم أيضا، متصفحا الأوراق على مكتبه هنالك خمسة أعضاء دائمين، وعشرة أعضاء غير دائمين في مجلس الأمن الدولي، فلن يكون للولايات الأمريكية كل الأصوات إذا! المسألة لن تكون مقلقة جدا بهذا الشكل إن صحت تلك الحسابات طبعا! يوم الثلاثاء 11 فبراير، اتصل الرئيس بالمجتمعين لدى مجلس الأمن الدولي، محاولا إقناعهم بالالتزام على «اللا ورق» كما يسمونها في لغة الدبلوماسيين، والتي تعطي فرضية المهلة «للا حرب» الآن، ذلك الملف المكون من أربع صفحات تداولته أروقة مجلس الأمن ابتداء من يوم الثلاثاء 11 فبراير الماضي، يعرض فيه أهمية تكثيف عدد مفتشي الأمم المتحدة في العراق، وهي أوراق مقترحة من فرنسا، ألمانيا، وروسيا (التي كان انضمامها بمثابة ضربة دبلوماسية فرنسية ناجحة بعد الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» إلى باريس)، ومن ثم انضمام الصين فيما بعد، لكن «شيراك» يعرف أن الضغوط الأمريكية كبيرة لعزل هذا الحاجز المزعج المدعو فرنسا وحلفائها الرافضين للحرب، ، فرنسا بالذات التي يقول عنها «جورج بوش» انها «خيبت آماله إلى حد لا يوصف»، الاتصالات الهاتفية المكوكية، من «الإليزيه» إلى أعضاء مجلس الأمن غير الدائمين تكون عادة مسبوقة باتصالات أخرى من الإدارة الأمريكية التي لا تضيع فرصة للضغط باسم المساعدات التي تقدمها لبلغاريا التي تريد الانضمام إلى الحلف الأمريكي- الإنجليزي، وإلى «أنغولا» التي تتلقى مساعدات أمريكية بقيمة 4 ملايين دولار، وإلى«غينيا» التي تستفيد من 31 مليون دولار في السنة، وإلى «المكسيك» التي يرتبط اقتصادها أساسا باقتصاد جارتها أمريكا.. هذه الإيضاحات الأمريكية يمكنها أن تحطم الجدار القائم بين «الحرب» و«اللا حرب»، مثلما تهدد الوعود، و«الاطمئنانات» التي يغزلها «شيراك» مستفيدا من حزمه في تمرير «اللاءات» الكثيرة هنا وهناك.. مع ذلك، فإن «شيراك» لا يلغي أي فكرة أو احتمال بما في ذلك احتمال مشاركته في الحرب في آخر المطاف ! حتى وهو يتمسك بكونه يريد أن يتم نزع سلاح الدمار الشامل عبر الأمم المتحدة وليس عبر رغبة الرئيس «بوش» في تأدية دور «الحاكم الدولي العادل».. رغبة «شيراك» يؤيدها الملايين من سكان الأرض، وربما هذا ما زاد من الثقة الفرنسية في المشي نحو نفس الرغبة تلك.. وهذا ما أعطى للفرنسيين أنفسهم صورة أخرى أكبر، وهي أنهم يملكون خاصية الرفض، وأن هذه الخاصية ليست مقتصرة على الفرنسيين فقط، لأن العالم يؤيدها في الأخير، ولهذا فموقف فرنسا لم يكن معزولا أيضا يقول «شيراك» لأن 4 ملايين متظاهر لأجل «اللا حرب» يؤكدون أن فرنسا صارت حقيقة بعينها! رئيس الجمهورية يقول إنه يرفض أن يكون موقفه عاكسا لفكرة «الذراع الملوية» ضد الأمريكيين، حتى والصحف الأمريكية تريد أن تصنع منه «شارل ديجول» آخر، يقود الفرنسيين إلى الهاوية.
عندما غادر «شارل ديجول» منظفة الحلف الأطلسي إبان الحرب الباردة، واصفا إياها بتنظيم اليأس، فعل ذلك مقتنعا أنه على حق، لكن الأمر يختلف «يقول شيراك» لوزير الخارجية الأمريكي الاسبق «هنري كيسنجر» الذي اعتبر أن فرنسا فتحت بموقفها المناهض للحرب على العراق الأزمة الأخطر التي لن يكون من السهل على الفرنسيين الخروج منها.
ليست هذه المرة الأولى التي يرفض فيها الرئيس الفرنسي منطق الولايات الأمريكية المتحدة القائل : «من ليس معي فهو ضدي»، إنه يطالب باسترجاع الحق، بمن في ذلك الحق الأخلاقي، «هذا هراء» يقول وزير الخارجية ل«شيراك»، يهز الرئيس رأسه مبتسما، مذكرا في خطاب «يناير» الماضي أن «الحق الأخلاقي» يفرض على العالم إيقاف نزيف الدم، وليس التسبب فيه، ومعتبرا أن «الواجب الأخلاقي» يجب أن يبدأ أيضا من الشرق الأوسط.
بالنسبة للرئيس الفرنسي، فإن إعلان الحرب على العراق لن يحل أزمة الشرق الأوسط، ولن يفتح المجال لحلول سلمية في المنطقة، بل على العكس تماما، الحرب على العراق سوف يزيد من حدة العنف، مانحا كل الحق للتنظيمات «الإرهابية» كي تتبنى موقفا معاديا ليس لأمريكا فقط، بل للغرب ككل.. هذا التحليل لايتبناه «جورج بوش»، لكن «شيراك» يؤمن به، كما يدرك أن العالم ليس أمريكا وأكثر من ذلك ليس الرئيس الأمريكي!
في عام 2001، مباشرة بعد صدمة 11 سبتمبر، قال الرئيس الفرنسي إنه قلق من المنهج «الأحادي الاتجاه» الذي تتخذه الولايات الأمريكية المتحدة، الاتجاه الراديكالي صار أكثر وضوحا بعد مجيء جورج بوش الابن يقول «شيراك» مدافعا عما يسميه: «عالم متعدد القوى، والأقطاب» رؤيته تلك لم تخف حدتها، منذ فوزه بالرئاسة للمرة الثانية.
في سنة 1995، كان «شيراك» مصمما على خطابه السياسي، المركز على «الحقوق المدنية»، مع التركيز على العالم الثالث بشكل أكثر براغماتية، لا تخلو من التناقض أيضا، من حيث رغبته في تحرر الشعوب في الوقت الذي يسند الدور إلى القوات الخاصة في عدد من الدول الافريقية، التي ثارت في العقد الأخير على الوجود الفرنسي على أراضيها.
هذه الأزمة ثنائية الأوجه لم تغب عن الرئيس الفرنسي، بالخصوص منذ أن قررت ساحل العاج التخلص من التبعية الفرنسية لها ومطالبة البعض هناك بالتدخل الأمريكي لمساعدتهم في إيجاد حل لمشاكلهم الداخلية !.
وحتى إن كان دفاع الرئيس عن «المؤسسات الدستورية» المقدسة، في الداخل وفي الخارج قائما كخطاب شبه يومي، فإن زلزال مايو 2001، الذي كاد يحطم أحلامه، في الرئاسة لم يثن «شيراك» عن البحث عن بديل شعبي لأطروحاته التي كان يمنحها دائما الصبغة «الوطنية».
للرئيس «جاك شيراك» وجهان سياسيان.. الأول داخلي بمزاج الطبقة السياسية القاتمة التي تصل أحيانا إلى حد الانسداد، هذا يؤثر بشكل ما على مزاج الرئيس، ولهذا ربما يظن البعض أن اتجاهه إلى السياسة الخارجية هو لسد النقص في «عجزه» عن مواجهة التحديات الداخلية، ربما هذا ما فعله أيضا الجنرال «شارل ديغول» في اتجاهاته نحو سياسة استراتيجية خارجية على حساب الداخل، نظرة شبه مثالية.
دافع عنها الرئيس «شيراك» يوم 3 سبتمبر 2002 في جوهانسبرغ، فليس من الصدفة أن يعلن الرئيس الفرنسي أن: صرف 100 مليون دولار لمواجهة مرض الإيدز، أفضل بكثير من صرف 100 مليار دولار كثمن للحرب، بالنسبة إليه، هذه المعارك مشتركة مع المطلب الأساسي للوئام الدولي الذي يتكلم عنه.. وئام شبه مستحيل في ضوء الصراعات الكبيرة في العالم، بالخصوص فرضية الحرب المحتملة في الخليج التي يراها الرئيس الفرنسي حربا أمريكية غير مبررة بالمرة ما دام هنالك خيار التفتيش الدولي، فالمضي نحو الحرب على طريقة «جورج بوش» يجعل كل دولة مهددة بالحرب، يقول في مقابلة أجرتها معه القناة التلفزيونية الفرنسية الأولى، فوزه الصعب في انتخابات 5 مايو الماضي، أعطى له قوة غريبة، وهو الذي كان على حافة الانتهاء، في نظر الأوروبيين الذين كانوا يتكلمون في جلساتهم الخاصة وفي زياراتهم المتبادلة عما بعد «جاك شيراك»، لتأتي نسبة الفوزب 82% كي تخرجه من عنق الزجاجة، لتعيده إلى كرسي «الإليزيه»، بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من الانهيار (الكارثة).
قانون «قدماء المقاتلين» الذي قدّمه في القمم الدولية الأخيرة زاد من وزنه السياسي، لدى الهيئات القانونية، والتنظيمات الإنسانية، وأعطى للرئيس وجها سياسيا أقوى وأكثر تحديا وجرأة من ذي قبل، على الرغم من سنه الذي تجاوز السبعين.
ربما نستطيع أن نفهم قليلا موقف الرئيس «شيراك» من السياسة الأمريكية التي يرى فيها : نمطية «أحادية مطلقة»، تسعى إلى التحكم في العالم، باسم أيديولوجيات فكرية و«سوسيو سياسية» تقوم على «العنصرية» في تحديد مفهوم غامض للهوية.
فرنسا وأمريكا كما يقول «شيراك»: بلدان يحبان بعضيهما بنفس القدر الذي يكرهان فيه بعضيهما! الرئيس «جاك شيراك» يعرف أنه لا يستطيع خسارة الطرف الأمريكي، لهذا يقول فاتحا بابا للاحتمالات: يجب أن نتحرك دون أن نترك أي احتمال من الاحتمالات الممكنة!
إنه يدرك المخاطر المترتبة عن وقوفه في وجه الرئيس الأمريكي الذي أبدى راديكالية شديدة في نظرته إلى الفرنسيين، والتي غذتها الصحافة الأمريكية بانتقاداتها للرئيس الفرنسي واصفة إياه بال«قزم الذي لبس فستان جان دارك!» كما جاء في جريدة «الوول ستريت»!
تلك الصورة الجديدة لرجل قال «لا» للولايات الأمريكية المتحدة، مدعوما بنسبة كبيرة من الفرنسيين (أكثر من نصف السكان يطالبون «شيراك» باستعمال حق الفيتو ضد قرار الحرب)، لكن السؤال الذي يظل يرعب الجميع هو : هل سيحتفظ «شيراك» بنفس الرؤية الصارمة التي صنعت الحقد الأمريكي الرسمي على الفرنسيين والذي وصل إلى حد التهديد بمقاطعة البضائع الفرنسية، كما طالب به بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي؟
كيف ستحط طائرة «جاك شيراك» على الأرض؟ يتساءل أحد وزراء الخارجية السابقين.. سؤال شرعي، ربما لا يريد الرئيس التطرق إليه، خوفا من الإجابة، أو ربما يرى متمسكا أنه على حق، ليس بسبب رفضه للحرب في الخليج، بل لأنه يريد أن يقول للرئيس «جورج دابليو بوش»: كفى استهتارا بالآخرين!
الرئيس «شيراك» يتعامل على هذا الأساس، لأنه يرغب أن يكون «شارل ديجول» بشكل ما، حتى لو كانت الظروف متغيرة عن تلك التي عاش فيها الجنرال الكبير.
ماذا لو نجحت أمريكا في ضرب العراق؟ تتساءل الصحف الفرنسية، لكن الرئيس يكره عبارة ماذا لو يقول عنها: مرعبة وغير عملية! شيراك يريد أن يقال له أحسنت، لقد فعلت ما كان يجب فعله! لأن الهامش المتروك لعبارة ماذا لو يبقى أشبه بالانفجار، ربما غدا نعرف الإجابة على تساؤلات كثيرة أولها: ماذا لو خسر «جاك شيراك» الرهان؟ !!
(*) عن «اللموند» الفرنسية
خدمة الجزيرة الصحفية
|