كل سعودي يفرح بالمطر ما عدا زوجة أبو عبدالعزيز. أظن أنها في حالة كرب هذه الأيام لتوقع حصول مطر في أي وقت. ومن باب الإنصاف: هي لا تكره المطر على إطلاقه، ففي صيف مضى سافرت معه إلى لندن ولم تشعر بأي كرب رغم الأمطار الزاخة هناك.
يصل أبو عبدالعزيز الساعة التاسعة صباحاً أسوة بكل المديرين المميزين، وقبل أن يسلم أو حتى يدخل مكتبه يكون السكرتير ناصر قد أعد له قائمة الحضور والغياب. لك أن تراجعه وتعترض على قراراته في أي قضية: الإجازات، المناقصات، الحب، الكراهية ولكن قضية الحضور والغياب قضية أيدلوجية لا تحتمل العبث. ولو بحثنا في التاريخ لاكتشفنا دون تعب أن أبا عبدالعزيز هو مخترعها خلافاً للسائد الذي يقول إنها من الأفكار التحديثية لمعهد الإدارة. وإذا كان لمعهد الإدارة فضل فهو فضل صياغتها في نظرية إدارية قابلة للتدريس، أيدولوجية الحضور والغياب موجودة قبل أن يوجد معهد الإدارة والدليل أن أبا عبدالعزيز المتقاعد (الآن) مارسها منذ أكثر من أربعين عاماً، معروف أنه لم يلتحق بأي دورة في معهد الإدارة، كان يزدري التعليم ليس لأنه لم يتعد الابتدائية ولكن لأنه رجل عملي يؤمن أن الحياة هي أكبر جامعة يتربى فيها الإنسان، كان يقول: «طالما أننا سوف نلتحق بجامعة الحياة رغم عنا فلم الكلافة»، يتمتع أبو عبدالعزيز بذاكرة غير عادية، ما زال يتذكر كل موظفيه منذ أن التحق بالوظيفة حتى يومنا هذا وكم عدد الأيام التي غابها صالح وفهد وغيرهما منذ أن أصبحوا تحت امرته، بل يتذكر مبالغ الحسومات التي أعادها إلى وزارة المالية ولم يشكر عليها.هناك قواعد عاش أبو عبدالعزيز يكرسها ويطبقها حتى أضحت جزءاً من حياته الشخصية أول القواعد بعد الحضور والغياب قاعدة السرية في العمل، كل ورقة موقعة في دائرة حكومية هي من أسرار الدولة ويحاسب من يفشيها، في إحدى المرات ضاعت ورقة في معاملة مالية حولت إليه من رئيسه، في المرفقات ثمان والموجود في الدوسيه سبع فقط.. اهتزت أركان الوزارة وفي الليل أصيب بالحمى منتظراً أن يأتيه الجيب يغم عيونه ويغيب شمسه، بعد ذلك تأتي القاعدة الذهبية وهي أن الفراشين هم عصب الحياة في أي إدارة، وأي إدارة بلا فراشين يراها أبو عبدالعزيز مثل (الحمّار بلا مشعاب)، كان يعرف كيف يعصر الفراشين ويخرج منهم عصارة مواهبهم. يشهد بذلك كل الفراشين الأحياء الذين عاصروا أبا عبدالعزيز في مشواره الإداري المديد ومن القواعد الإدارية التي رعاها أبو عبدالعزيز أن المدير مسؤول عن توفير مبالغ الميزانية لا صرفها.أول مرة أعطي السيطرة على ورقة الحضور والغياب في عز شبابه قال (أوريك فيهم) كان البعض يظن أنها فورة شباب ستهدأ بعد أن يتذوق أبو عبدالعزيز طعم القيادة، ولكن الأحداث وسياق التاريخ كذبت تلك التخمينات جملة وتفصيلا، وبرهنت أن أبا عبدالعزيز قول وفعل، فلم تبرد تلك الشعلة أو تتوقف إلا بعد أن أعلن تقاعده بعد اصابته بمرض السكر أو مرض العصر كما يسميه بعض الناس. وإذا كان المقصود بالعصر هو العصر الحديث فهذا يعني أن أبا عبدالعزيز لم يصب من هذا العصر إلا مرض السكر.
تقاعد أبو عبدالعزيز بعد مشوار طويل من العمل الدؤوب دون أن يعرف أن شعار (أوريك فيهم) الذي رفعه قبل أربعين سنة في وجه طغمة من الموظفين المتلاعبين سيكون الطاقة الإدارية التي تعمل بها الدوائر الحكومية في بلاده والشعلة المضيئة التي تنتصب أبداً على رأس فن الإدارة في المملكة العربية السعودية.
البقية بعد غد
فاكس 4702164
|