ينتهي موسم الحج مودعاً دائماً بعبارة: «نجاح موسم حج هذا العام»، ويتكرر النجاح دائماً وكاملاً، وأما ما يحفل به من حوادث وأحياناً كوارث فإن التعامل الإعلامي معها يتم بطريقة غاية في الغرابة والعجب!!
إننا بحاجة - بعد كل موسم - إلى أن نواجه الحوادث بالبحث عن أسبابها، والحديث الصريح عن جدوى الخطط المعمول بها، وعن أخطاء التنفيذ، وعن التجاوزات التي تعكر روحانية النسك، وتشوه ضخامة الانجازات، وكم من أخطاء تبدو صغيرة لكنها تحجب أعين الحجاج عن رؤية كثير مما يفعل من أجلهم.
في الأعوام السابقة تعاقبت حوادث كانت الوفيات فيها بالمئات، وكان آخرها حادث هذا العام الذي انكشف عن وفاة أربعة عشر حاجاً - نسأل الله لهم الرحمة والغفران - طالعنا الخبر وما قيل عما حدث، وقرأنا الحروف ونقاطها، والسطور وما بينها، نبحث عن عبارات تدل على فداحة زهوق الأرواح، وشناعة الميتة التي واجهها هؤلاء الحجاج في هذا الصعيد المعظم فلم نجد! بحثنا عن وعد بالتحقيق فيما جرى ومتابعة للأسباب، وعلاج لهذا في المستقبل فلم نجد!
قرأت الخبر فإذا هو يتضمن:
(أ) نعياً لأولئك الحجاج.
(ب) تحميلهم المسؤولية عما جرى، وأن السبب في ذلك الطبيعة الإنسانية التي لا يمكن التحكم فيها؟!
(ج) الافتراض المسبق بأن الاجراءات سليمة، ولا خطأ فيها بحال، وليست سبباً، ولا يمكن أن تكون.
شعرت بالفجيعة، وتساءلت: لماذا نتعامل مع هذه الحوادث الكارثية بطريقة «المرحوم كان غلطان؟».
إن من المسلمات التي يدركها العقلاء جميعاً أن «الموتى لا يتكلمون» ولن يستطيعوا أن يدافعوا عن أنفسهم، ولا أن يبرروا ما حصل منهم، ويدينوا ما حصل لهم.
كيف سيكون شعور كل منا لو كان أحد المتوفين قريبه القريب، أو صديقه الحميم؟ بل هل نتصور حالنا مكان واحد من هؤلاء الذين ماتوا بتلك الطريقة الشنيعة ركلاً بالأرجل ودهساً بالأقدام؟ هل نقبل أن يكون السبب هو السبب، والخبر هو الخبر؟
إن هلكة أكثر من ألف نفس في نفق، أو المئات حول الجمرات، أو أربعة عشر في طريق سالكه من طرق المشاعر يجب أن يتعامل معه بما يليق بعظم الفاجعة، وحجم الكارثة، وحرمة النفس المسلمة، وإن نفساً واحدة من هؤلاء هي أعظم حرمة عند الله من الكعبة المشرفة التي يحج إليها الملايين من عباده.
إن الحج ليس مفاجأة في وقته ولا في مكانه ولا في شعائره، فهذه أيامه وأماكنه وأحكامه منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، فلماذا تتكرر هذه الأخطاء والحوادث والكوارث المروعة حتى أصبحت جزءاً من شعائر الحج؟!
ان التكتم على الأخطاء خطيئة، وأخطر من ذلك تبرير الأخطاء، وتهوين المصائب، وتطبيع الحوادث، والتبرؤ من وصف ما حدث بأنه خطأ أو تهاون، ولا ندري.
ما الكلمات التي ستسعفنا لوصف ما حدث بغير ذلك؟
إن علينا أن نتجاوز العبارات التي مضى عليها الزمن، وقتلها التكرار حتى فقدت معناها مثل: «نجاح موسم حج هذا العام»، «تم تصعيد الحجاج إلى عرفات بيسر وسهولة»، «تمت نفرة الحجاج إلى مزدلفة في وقت قياسي»؟ ونحوها، لماذا لا نتجاوز ذلك إلى ما هو أجدى وأنفع، لماذا لا نستنفر الناس لا إلى الاشادة والاطراء ولكن إلى النقد والمصارحة، واكتشاف الأخطاء، وتسليط الضوء على مكامن الخلل وأنواع التجاوز، وأسباب الكوارث، وأن ننقد أنفسنا قبل أن ينتقدنا غيرنا، وأن نعترف بأخطائنا قبل أن ننبز بها؟.
وبذلك يقصر عمر الأخطاء، وتحاصر السلبيات، وتتسع رقعة الايجابيات، وبدون ذلك ستستمر الأخطاء وتنمو وتتشعب، في ظلمة الصمت، ومغالطة التبرير، والتنصل من أن يقال للمخطئ: أخطأت، كما يقال للمصيب: أصبت.
إن ضوء الشمس يقتل الجراثيم، ونور المصارحة يحجم الأخطاء، ويحاصر التجاوز، ونحن أحوج ما نكون إلى فتح القلوب والآذان لسماع المصارحة الصادقة، والنصيحة الخالصة.
* نائب المشرف العام على موقع الإسلام اليوم
|