أحس منذ صغره أن حياته لم تعطه شيئاً وأنها لن تعطه أي شيء في مستقبل أيامه، وما كان واهما ليبني إحساسه هذا على أساس من الوهم، فكل ما حوله كان ينطق بهذه الحقيقة ويعبر عنها، وما كان هذا الإحساس عنده نتيجة طبيعة فراجية في نفسه فهو أبعد ما يكون عن التشاؤم.
وعرف هذه الحقيقة فلم ينكرها ولكنه لم يكترث لها وفرق بين التجاهل والإنكار.
عبست الحياة في وجهه منذ أن وعاها، فاستشعر غربته فيها وحاول أن يستعين على هذه الغربة بالآمال التي تعيش في صدره وتحيا في قلبه، ثم قادته قدماه أو هو قادها ليبدأ الطريق من بدايته ولم يكن ليملك من خيار وإلا لما فكر ببداية أو نهاية.. هو يعرف البداية والنهاية تماما ولا يهمه بعد ذلك أن يعرف ما بينهما.
وسار مع السائرين في الطريق الطويل في رحلة تصورها شاقة وطويلة وما يملك من زاد لهذا السفر سوى الطموح.
وتلفت إلى رفقاء السفر فإذا هو غريب بينهم فلم يشعروا حتى بوجوده معهم كان همهم فقط هو أن يسيروا في حين أن همه ليس السير فقط بل أن يحس وأن يعي موضع خطواته.
ولم تكن غربته بينهم لتثير اهتمامه في قليل أو كثير تلك كانت حتمية وجوده معهم فهي عنده لا تستحق التفكير، وإذا كان لا بد منه فليفكر في أسبابه ولعله فكر ولكن تفكيره كان سخرية واستهزاء وأنفة وكبرياء ومرارة وشقاء، ومع ذلك هو لا يملك إلا أن يسير، ورأى في طريقه هذا عجبا.
وكان له من نفسه ما يشغله عن كل ما يرى.
شقاؤه الدائم الذي لا ينتهي. مصائبه ونكباته التي تلازمه كظله.
مرارة الأسى والحرمان التي تجرع كؤوسها واحداً بعد الآخر، أمانيه التي تحطمت على صخرة القدر في فترة مبكرة من صباه، آماله التي ضاعت في غمرة متاعبه وآلامه في أولى خطوات شبابه.
وماذا بقي له بعد ذلك؟ إن حياة الإنسان بآماله فإذا فقدها فبماذا يعيش؟ هل يبني سعادته على الأطياف والأحلام؟
إن من بات يعانق الأطياف ظلت سعادته طيفا. عبارة قرأها أمير أرغون فعاد لتوه من حيث أتى بعد أن ظل يمني النفس سنينا في امتلاك قلب بورشيا.
إذاً فليبق هذا الوهم وليلق به جانبا فالواقع يكذبه وعرف هذا فكان واقعياً لم يطق معانقة الأحلام والأطياف، ورضى بواقعه هذا فلم يضق به ذرعا بل ألفه واستعذبه، وما سأل الحياة وجها غيره لأنه يعرف أنها لا تملك غير هذا فلم ينكره عليها.
ولكن شيئا ما يضايقه ويقض عليه مضجعه ويكدر صفو رضاه هذا.إن من حوله من ينكر عليه هذا ويرى فيه ظاهرة غريبة، هناك أناس في عيونهم نظرات عطف وشفقة هو في غنى عنها لأنها تشعره بما يدور في نفوسهم نحوه.. هو يعرف أنهم يقولون عنه إنه مسكين.. محطم.. ضعيف.. عاجز حتى ولو لم يقولوا له هذا صراحة، وكان هذا يؤلمه كثيرا لأنه ما كان كذلك في يوم من الأيام.
لم يعرفوه مع أنه منهم، لم يعرفوا واقعهم حتى ينتسبوا إليه وما عرفوا واقعه فنسبوه إليهم وقاسوه بمقياسهم وليس بعيداً يوما أن يعقدوا صلة قوية بينه وبين الجنون.. هو شخصياً لا يستعد هذا وربما خطر ببالهم وتهامسوا به.
أمنيته أن يعرفوه فقط.
هو يبكي حين تغلبه الدموع وربما بمرارة ولكن لا يبكي ضعفاً ووهنا يبكي تعبيراً لأنه لا يحب الغموض يبكي ليرتاح وليستجم وراحته هذه لم تكن تخلصاً من متاعب ر حلة سابقة بقدر ما هي استعداد لرحلة أخرى قادمة قد تطول وقد تقصر ولكنها حتمية.. وعرف هذا فكان كثيرا ما يوفر دموعه لأنه ما زال يسير.. وإذا كان لنا أن نحسده على شيء فعلى الدموع، وإن أعجب من شيء فمن سعادته في شقائه هذا في وقت شقى الناس فيه بسعادتهم.ويؤمن ويزداد إيمانه بوجوده كل يوم وكلما أطل عليه حزن جديد.
وخطر له مرة أن يتلمس جراحه فإذا بيده لا تقع الا على جراح فعاد يتلمس ما بقى من جسمه سليما ثم حمد الله وهو بعد ذلك وقبله إنسان يؤمن بالقضاء والقدر، ولكن عيبه هو أنه يحس ويتألم.
|