Friday 28th february,2003 11110العدد الجمعة 27 ,ذو الحجة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الهجرة النبوية: رحلة رجل ومولد أمة، ومصدر عظة وعبرة الهجرة النبوية: رحلة رجل ومولد أمة، ومصدر عظة وعبرة
د. عبد العزيز بن عبد الرحمن البليخي /أستاذ مساعد - جامعة الامام محمد بن سعود الإسلامية

بنهاية شهر ذي الحجة يطوي التاريخ صفحة من صفحاته ينتهي بها العام الهجري، ليفتح التاريخ صفحة جديدة مؤذنة بحلول عام هجري جديد، وبحلول العام الهجري الجديد يعيش المسلمون ذكرى حدث عظيم خالد في تاريخ الامة الاسلامية «بل في تاريخ البشرية كلها حدث جليل كان وقوعه منعطفا خطيرا في تاريخ البشرية، وتحولا جذريا في مسيرة التاريخ من سبل الضلال المتفرقة الى سبيل الحق القويم، حدث كان وقوعه إيذانا ببزوغ فجر جديد وميلاد امة عظيمة دخلت التاريخ من اوسع ابوابه، وانطلقت تنشر الهدى والنور والسلام في ربوع المعمورة. تلكم هي امة الاسلام، وذلكم الحدث هو هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من مكة الى المدينة.
فيالها من ذكرى عظيمة عزيزة على قلوب المسلمين. فكما ان ميلاده - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مولد انسان بل مولد انسانية، فكذلك هجرته، لم تكن مجرد انتقال شخص من بلد الى بلد، وانما كانت حجر الأساس لبناء أمة جديدة عظيمة، قامت على عقيدة عظيمة فانطلقت بوحيها وعلى هدي نورها تحمل السلام الى العالمين.
فما أطيب ان يستعيد المسلم بعض احداث هذه الهجرة لاستخلاص بعض ما فيها من العبر والعظات. نشأ محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - يتيما في قريش ذات الشرف والسيادة، ولما بلغ الأربعين من عمره تنزل عليه الوحي {يّا أّيٍَهّا المدَّثٌَرٍ قٍمً فّأّنذٌرً} فهب مجيباً داعي الله، وانطلق يصدع بالحق ويحارب الباطل ويسفه احلام الجاهلين فما كان لاهل الجاهلية طاقة بهذا النور المبين الذي جاء به هذا الغلام اليتيم، فهبوا في وجهه يحاربونه ويحاولون ثناءه عن المضي في هذا السبيل، وعاداه اشراف قومه - الا نفر قليل منهم - وحذروا منه القبائل، فاشتدت عليه الحرب، وضيقت عليه سبل الدعوة، ورمي بالحجارة وبكلمات من السفه هي اشد وقعا من الحجارة، حتى جأر في ألم مرير وحزن عميق بشكواه الى الله تعالى في دعائه المشهور المذكور في السيرة. روي انه «لما اشتد البلاء من قريش على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج الى الطائف ودعاهم الى الله عز وجل.. فآذوه اشد الاذى ونالوا منه ما لم ينل منه قومه.. فأقام بينهم عشرة ايام، لا يدع احدا من اشرافهم الا كلمه. فقالوا: اخرج من بلدنا، وأغروا به سفهاءهم، فوقفوا له سماطين، وجعلوا يرمونه بالحجارة وبكلمات من السفه، هي اشد وقعا من الحجارة. دميت قدماه.. فانصرف الى مكة محزونا. وفي مرجعه ذلك دعا بالدعاء المشهور «اللهم اني اشكو اليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، انت رب المستضعفين وانت ربي، الى من تكلني؟ الى بعيد يتجهمني، او الى عدو ملكته امري؟ ان لم يكن بك غضب عليّ فلا ابالي، غير ان عافيتك هي اوسع لي، اعوذ بنور وجهك الذي اشرقت له الظلمات وصلح عليه امر الدنيا والآخرة، ان يحل عليّ غضبك او ينزل بيّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة الا بك» «مختصر سيرة ابن هشام».
ولكن مع كل ذلك يتجلى بوضوح كيف استيقنت نفسه النصر من الله وكيف اكد ثقته به واكد عزمه واصراره على التضحية يوم قال في شكواه تلك مناجياً ربه: «ان لم يكن بك غضب عليّ فلا ابالي».
وأصر المشركون على عنادهم، واصر هو على موقفه وثبت على مبدئه، ويوم ان ساوموه على دعوته، اعلن موقفه بثبات وصراحة لا تقبل المساومات، وعزم لا يلين امام المفاوضات وانصاف الحلول، وايمان خالص لا يرضى بالمطامع الشخصية على حساب المبدأ، واطلقها صرخة تدوي في سمع التاريخ، وترسم الطريق للمصلحين المجاهدين المخلصين لمبادئهم. فحين كلمه عمه ابو طالب في امر قريش ورغبتهم في ان يترك محمد ما يدعو اليه ويعطونه ما يريد قال: «والله يا عم لو وضعوا الشمس على يميني والقمر في يساري على ان اترك هذا الامر ما تركته، حتى يظهره الله او اموت فيه»، ثم استعبر - صلى الله عليه وسلم - فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه عمه ابو طالب.
وقال: اقبل يا بن اخي فقل ما احببت، فوالله لا اسلمك لشيء ابدا. «مختصر سيرة ابن هشام».
واستيقن الكفار من صدق عزمه على المضي في دعوته، فزادوا في عنادهم وتضييقهم عليه وعلى اتباعه حتى اذن عليه السلام لاصحابه بالهجرة الى المدينة، فهاجر كثير منهم ثم هاجر هو عليه السلام فيما بعد. ذكر الاموي في مغازيه عن ابن اسحاق: كان مخرجه من مكة بعد العقبة بشهرين وليال. قال: وخرج لهلال ربيع الاول، وقدم المدينة لاثنتي عشرة خلت منه. قال ابن عباس - رضي الله عنه - كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة فأمر بالهجرة وانزل عليه )وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً) (الاسراء:80)
} . فاستجاب - عليه السلام - لامر ربه، وآثر الهجرة في سبيل دعوته على البقاء بين اهله وعشيرته وفي مسقط رأسه ومهد طفولته، ومرتع صباه، وترك مكة مهاجرا الى الله. وخرج معه صاحبه الصديق ابوبكر - رضي الله عنه - . خرج - عليه السلام - وايمان كامل وثقة مطلقة بنصر الله يملآن قلبه، على الرغم من جهاد قريش لمنعه، وعلمه - صلى الله عليه وسلم - بما اعدوا وخططوا وادخروا من قوة لصده.
وتتجلى بعض مظاهر هذا الايمان وتلك الثقة عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما كان وابوبكر في غار ثور في طريقهما الى المدينة، وكان المشركون الباحثون عنهما يقفون على باب الغار، ولكن الله اعمى ابصارهم وبصائرهم عن رؤية المخبأ.
وكان الرسول وصاحبه يسمعان حديثهم. جاء في الصحيحين ان ابابكر - رضي الله عنه - قال يا رسول الله لو ان احدهم نظر الى ما تحت قدميه لأبصرنا. فقال الرسول يا أبابكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن ان الله معنا. وفي ذلك يقول الله تعالى:
{ إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:40)
وحبطت مساعي قريش وايد الله عبده، ووصل بسلام الى المدينة، فاستقبله اهلها الذين طال شوقهم اليه، حيث كانوا يخرجون كل يوم ينتظرون قدومه، روي في ذلك انه «لما بلغ الانصار مخرج رسول الله من مكة كانوا يخرجون كل يوم الى الحرة ينتظرونه، فإذا اشتد حر الشمس رجعوا الى منازلهم. فلما كان يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الاول، على رأس ثلاث عشرة سنة من نبوته خرجوا على عادتهم، فلما حميت الشمس رجعوا فصعد رجل من اليهود على اطم من آطام المدينة فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدكم الذي تنتظرونه. فثار الانصار الى السلاح ليتلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمعت الوجبة والتكبير في بني عمرو بن عوف. وكبر المسلمون فرحا بقدومه وخرجوا للقائه فتلقوه وحيوه بتحية النبوة. واحدقوا به مطيفين حوله «مختصر لابن هشام».
وسعد اهل المدينة بالنور الذي جاءهم سعدا عظيما، وكبروا فرحا بقدومه. وقال انس - رضي الله عنه - : «شهدته يوم دخل المدينة فما رأيت يوما قط كان احسن ولا اضوأ من يوم دخل المدينة علينا، وشهدته يوم مات فما رأيت يوما قط كان اقبح ولا اظلم من يوم مات» «مختصر السيرة لابن هشام».
وكانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ووضعت اللبنة الاولى في صرح الأمة العظيمة، وتنزلت آيات الله تشيد بهذه الاخوة والمؤاخاة: {)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (لأنفال:72)
ومضت الآيات تشهد للفريقين بصدق الايمان وتبشرهم بالمغفرة:{وّالَّذٌينّ آمّنٍوا وّهّاجّرٍوا وّجّاهّدٍوا فٌي سّبٌيلٌ الله وّالَّذٌينّ آوّوًا وَّنّصّرٍوا أٍوًلّئٌكّ هٍمٍ المٍؤًمٌنٍونّ حّقَْا لَّهٍم مَّغًفٌرّةِ وّرٌزًقِ كّرٌيمِ}. قال ابن اسحاق: «فلما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، واجتمع امر الانصار، استحكم امر الاسلام، فقامت الصلاة وفرضت الزكاة والصيام وقامت الحدود، وفرض الحلال والحرام».
وهكذا كانت الهجرة المباركة فجر عهد زاهر لأمة الاسلام، وتحولاً جذرياً في مسيرة التاريخ «وكأن التاريخ» - كما يقول مصطفى الرافعي في كتابه وحي القلم: «واقف لا يتزحزح، ضيق لا يتسع، جامد لا ينمو، وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخو الشمس يطلع كلاهما وحده كل يوم، حتى اذا كانت الهجرة من بعد، فانتقل الرسول الى المدينة، بدأت الدنيا تتقلقل كأنما مر بقدمه على محورها فحركها، وكانت خطواته في هجرته تخط في الارض، ومعانيها تخط في التاريخ، وكانت المسافة بين مكة والمدينة، ومعناها بين المشرق والمغرب».
وكم في احداث هذه الهجرة من العبر والدروس، اذا تبصرنا في موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - وموقف ابي بكر وعلي - رضي الله عنهما - وموقف اهل المدينة من المهاجرين والانصار: ألوان من الايمان والعزة والصبر والثبات والايثار والنصرة والاتكال على الله، يندر ان ترى مثلها في غير هذه الحادثة العظيمة. ومن ناحية اخرى: هزيمة وذلة ومهانة لقريش ذات العزة والسيادة، وحبوط لمساعيها المكثفة، وتأييد وعزة ونصر من الله لحزبه، وإن حزب الله هم المفلحون على الدوام.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved