Friday 28th february,2003 11110العدد الجمعة 27 ,ذو الحجة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الاتصال الإنساني «15» الاتصال الإنساني «15»
د. ناصر الجهني

تنقسم عملية الاتصال Human Communication إلى قسمين رئيسين: اتصال كلامي Verbal communication وهو ما يسمى بالعربية التخاطب وهذا يشمل نواحي عديدة، منها الكلام نفسه والنبر والتنغيم والسرعة وحدة الصوت. واتصال غير كلامي Non Verbal Communication وهذا أيضا يشمل نواحي عديدة منها الإشارات وتعابير الوجه واتصال العينين ووضع الجسم والمسافة بين المتحدثين واللمس.
وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة لعملية الاتصال في حياة الإنسان إلا ان قلة من الناس هي التي تدرك هذه الأهمية. أذكر عندما كنت أجمع المادة العلمية لرسالة الدكتوراه ان أحد الأصدقاء سألني عن موضوع الرسالة، وعندما شرحت له الموضوع قال: «يعني هرج»؟ فأجبته «زي كذا» قال: «يعني حتى الهرج تدرسوه»؟. وهذا الصديق إنما يمثل الغالبية العظمى من الناس والتي تؤمن بعدم أهمية الاتصال وانه مجرد «هرج».
وعملية الاتصال هذه، أو «الهرج» -كما يقول صديقنا- هي إحدى أهم العمليات التي يقوم بها الإنسان، إن لم تكن أهمها على الإطلاق، كما يقول بذلك بعض علماء الاتصال.
وهي بشكل مؤكد العملية الأكثر استهلاكاً لوقت الإنسان. فهو بينما يقضي وقت استيقاظه في عمل أشياء كثيرة مختلفة فهو يقضي معظم هذا الوقت أيضا في عملية الاتصال. هو يتحدث مع زوجته وأبنائه وبقية أفراد أسرته وأصدقائه وزملائه والخادمة والسائق وصاحب البقالة وسائق التاكسي والجرسون ويستمع إليهم ويشاهد التلفزيون ويرد على الهاتف ويكتب التقارير ويحضر الاجتماعات ويقرأ المعاملات ويشرح عليها ويقرأ الجريدة والمجلة وأحياناً كتاباً وهو يقابل الناس ويصافحهم ويقبل بعضهم ويمسك بالبعض الآخر وينظر إليهم وينظرون إليه ويراهم ويرونه - وكل هذا إنما هو اتصال.
وقد وضع علماء الاتصال نسبة من وقت الإنسان يقضيها في الاتصال تتراوح بين 65% و80% تزيد أو تقل بناء على طبيعة عمل الإنسان. والقاعدة هي أنه كلما زادت أهمية عمل الفرد زادت نسبة اتصاله فالخادمة والسائق يقضيان جزءآً كبيرا من وقتهما في أداء مايكلفون به بدون اتصال بينما جل وقت مدراء الأقسام ورؤساء الشركات إنما يكون في الاطلاع على التقارير وحضور الاجتماعات والتوجيه كتابياً أو شفهياً واستقبال المرؤوسين والتحدث معهم.
ومن خلال الاتصال نتعامل مع الآخرين وبه نوجد الرأي العام في وسائل الإعلام. ونناقش قضايانا ومختلف أمورنا ونخلق العلاقات ونحافظ عليها ونعبر عن ذواتنا ونزيل توترنا وبالاعتماد عليه نتخذ وضع القرارات التي قد تمس حياة الملايين. ومتى ما كان هناك خطأ في عملية الاتصال كانت هناك أخطاء قد تكون كبيرة وقد تكون جسيمة وقد تكون فادحة ومدمرة وليس أدل على ذلك من خطأ مترجم هيئة الأمم المتحدة في ترجمته الفورية لعبارة واحدة من الانجليزية إلى الروسية ذلك الخطأ الذي كان كافيا لإثارة غضب خروتشوف وثورته، الأمر الذي كاد ان يشعل الحرب بين القوتين الأعظم في العالم كما يذكر.
وأهمية الاتصال لا تتمثل فقط في المحافل الدولية أو في المكاتب. ولكنها أيضا تتمثل حتى بين حيطان المنازل وداخل غرف النوم. ففي كتابها You Just Don't Understand: Women and Men in Conversation توضح البروفيسورة Deborrah Tannen ان معظم المشاكل الزوجية في الولايات المتحدة الأمريكية إنما تنبع بسبب عدم إدراك كل من الرجل والمرأة لأنماط وأساليب الاتصال الخاص بالجنس الآخر. ومن ضمن الأمثلة العديدة التي تذكرها Tannen في كتابها أن زوجين كانا يسيران بسيارتهما في شوارع واشنطن العاصمة متجهين إلى منزلهما عندما قالت الزوجة: ما رأيك في فنجان قهوة؟ فرد الزوج: لا أشتهيها الآن فصمتت الزوجة واستمرا حتى وصلا منزلهما لاحظ الزوج تجهم زوجته فسألها عن السبب فقالت: قلت لك إنني أرغب في فنجان قهوة، ولكنك لم تهتم. فأجاب الزوج: أنت لم تقولي إنك ترغبين في فنجان قهوة، وإنما سألتني عما إذا كنت أنا أرغب في فنجان قهوة أم لا فردت الزوجة: كنت أعني أن كانت لي أنا رغبة في فنجان قهوة فقال: ولم لم تقولي ذلك بوضوح؟ كما وأنه في إحدى حلقات مسلسل Three's Company الأمريكي أصرت Joyce Dewitt على زميلتها Priscilla Barnes في أحد المشاهد على أمر ما، وعندما قبلت الأخرى تحت إلحاح الأولى استدارت هذه الأولى إلى زميلها John Ritter وقالت والدهشة على وجهها: هل رأيت؟ قال: ماذا؟ قالت: لقد قبلت بكل وقاحة، قال: ولكنك أصررت عليها أنت، قالت: ألا تعرف أنني لا أعني دائماً ما أقول ولا أقول دائماً ما أعني، قال: هاه! قالت: أتعرف ما هي مشكلتك يا جاك تريبر - وهذا اسمه في المسلسل قال: ماذا؟ ، قالت: أنت لا تفهم النساء.والمشكلة كما تقول Tannen تتمثل في ان للرجل والمرأة أنماطاً مختلفة في الحديث، فبينما الرجل يعبر في الغالب عما يريد مباشرة فإن المرأة لا تفعل في معظم الأحيان، وعلى الرغم من أن من الصعوبة بمكان تغيير أنماط الحديث لأي من الجنسين إلا ان الحل يتمثل في إدراك كل منهما ان للآخر أسلوباً مختلفاً في التعبير. ومجرد إدراك هذا الفارق سوف يسهم إلى حد كبير جدا - كما تقول Tannen في تقليص المشكلة.
والاتصال بالنسبة لرجال الأعمال وكبار المسؤولين على وجه الخصوص هو على درجة كبيرة جداً من الأهمية، وضبط عملية الاتصال في الشركة أو المؤسسة التي يديرها رجل الأعمال إنما هو من أساسيات ضمان نجاح العمل خاصة إذا أدركنا درجة التشتت والتغاير في المعلومة عند انتقالها عبر القنوات الإدارية صعوداً أو هبوطاً، وتأثير ذلك على اتخاذ القرارات - في حالة الصعود- وعلى تنفيذ التعليمات- في حالة الهبوط- كما ان على رجل الأعمال أو المسؤول اتقان عملية الاتصال شخصياً، فإدارة الاجتماعات والتحدث فيها والإجابة على الأسئلة وعقد المقابلات الشخصية ومقابلة زوار الشركة أو المؤسسة -خاصة إذا كانوا ذوي خلفية ثقافية مختلفة- هي أمور غاية في الحساسية بالنسبة لنجاح العمل، كما ان اتقان عمليات الاتصال تلك هو فن وعلم قائم بذاته تقدم فيه العديد من الندوات والدورات ويدرس في الجامعات وتمنح فيه علمياً حتى أعلى الدرجات.
ويكفي للتدليل على مدى أهمية عملية الاتصال أن نذكر بعض ما يحدث أثناء هذه العملية فأنت عندما تتصل بشخص أمامك - أي تتحدث معه - فإنك إنما تحدد أموراً عديدة لا تتنبه إلى معظمها، فأنت تحدد مظهرك بملبسك، إن كان رسمياً أم غير رسمي، ونوع العطر الذي تستعمله إن كان من النوع الخفيف أو الثقيل، الصارخ أم الهادئ، أو أنك لا تستعمل العطر إطلاقاً حسب رغبة المستمع وميوله، وتحدد المسافة بينك وبين المستمع والتي تعكس العلاقة بذلك الشخص إن كانت رسمية أم اجتماعية أم ودية، وكذلك وضع الوقوف أو الجلوس تجاه المستمع إن كان مقابلاً تماماً أو بزاوية، ومدى تلك الزاوية، كما وأنك لابد وأن تراعي مدة النظر إلى الشخص المقابل ونسبة تكرار النظر، وإذا ما تلمس الشخص الآخر أم لا وكذلك مكان اللمس أهو في اليد أم على الكتف أم على الذراع... هذا كله طبعاً بالإضافة إلى الكلمات التي تختارها هل تكون رسمية أم ودية، وأسلوب الكلام هل هو رسمي يعكس علاقة أعلى بأدنى أم ودي يعكس علاقة تساوٍ كذلك تراعي السرعة التي تتحدث بها إن كانت بطيئة رسمية تعكس الرغبة في الاحتفاظ بالبعد الاجتماعي بين المتحدثين أم عادية، وكذلك درجة حدة الصوت بأن يكون رحيماً سلطوياً أم عادياً صداقياً، ودرجة ارتفاع الصوت أو انخفاضه بما يعكس الحالة النفسية للمتحدث وطبيعة العلاقة بينه وبين المستمع ونوع الحديث إن كانت تعليمات تعطى أم أوامر تلقى أم خصاماً يحتد أم نقاشاً يدار.
تلك فقط بعض نواحي عملية الاتصال -هذه العملية التي إنما نغفل عن أهميتها بسبب قيامنا بها منذ لحظة استيقاظنا وحتى منامنا، فأقل ما تلتفت إليه هو أكثر ما تعمله- عندها يصبح أمراً مفروغاً منه Taken For Granted لا تشعر به ولا تتنبه إليه، إن جمال وروعة التخصص في حقل الاتصال الإنساني إنما تكمن في هذا التناقض العجيب فعدم إدراك أهميته إنما تنبع من شدة أهميته - عدم التفاتك لنبضات قلبك إنما بسبب نبضه الدائم -ومتى ما اختلت تلك النبضات، أصبح قلبك شغلك الشاغل، أما قمة الجمال فتتمثل في أنك تفهم من هو أمامك كمن يقرأ كتاباً، تدرك من خلال تصرفه الكلامي وغير الكلامي الكثير الكثير عن شخصيته وعلاقته التي يريدها معك وكذلك معرفة نفسيته -بدون أن يشعر هو بذلك.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved