السلام، كل السلام، مقابل الأرض، كل الأرض، كانت تلك صيغة الاقتراح الذي قدمه ولي عهد المملكة العربية السعودية، إلى القمة العربية في بيروت.
يندرج المشروع في إطار حيوي، مطالبا إسرائيل بالرجوع إلى حدود ماقبل 4 حزيران 1967، مع استعادة الجولان العربية، وإقامة الدولة الفلسطينية بمؤسسات رسمية في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، مقابل ضمانات حقيقية للسلام في المنطقة.
نعترف أنها كانت مبادرة شجاعة من ولي العهد السعودي، وأن إسرائيل تحتاج حتما إلى الاقتناع أنها بحاجة إلى السلام، ليس على طريقة «البلدزورات»، لأن الكارثة لم تعد أكثر من عادة بالنسبة للمنطقة.
المشروع السعودي يستحق القراءة، ليس لأنه مشروع قضية دامت طويلا، بل لأنه يجب الاعتراف، أن السلام مقابل الأرض، لم يعد شيئا مربكا، ولا ميؤوسا منه، صار ربما الحل الوحيد والمتبقي في صراع لا يمكن حله خارجه.
الانسحاب الكامل مقابل السلام، معادلة واضحة جدا، أثارت اهتمام أكثر من جهة دولية، ربما لأول مرة يطرح فيها النزاع بهذا الشكل من البدائل، بين ماهو مطلوب وما هو مقترح، وما هو ضروري أيضا، مع أن صيغة الأرض مقابل السلام ليست جديدة: مبدأ المبادلة في إطار الأرض مقابل السلام معروضة في قرار 242 (في سنة 1967)، و338 ( في سنة 1973) التي تبناها مجلس الأمن الدولي، ليست سابقة إذا، لأنها سايرت التوقيع على معاهدة مصرية إسرائيلية في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، عام 1977، والتي استثمرتها مصر بذكاء لاستعادة سيناء.
نفس الطرح تقريبا قاد إلى مؤتمر مدريد سنة 1991، وبالتالي التوقيع على اتفاقية أوسلو التي «مزقتها» الممارسات الإسرائيلية التعسفية، ومفاوضات «كامب ديفيد» في جويلية 2000، قبل انفجار الانتفاضة الثانية، ومن ثم المفاوضات في طابا 2001، التي أطلق عليها اسم «الفرصة الأخيرة»، القائمة على نفس الأساس: الأرض مقابل السلام.
لماذا كانت المبادرة السعودية فاتحة لكل ذلك الأمل يوم أعلنها ولي العهد؟
لأنها جاءت في الوقت المناسب، لأنها كانت واضحة، ومفهومة، وشجاعة، ولأنها أحرجت «شارون» عندما كشفت عن مخططات توسعية إسرائيلية لا تريد السلام، بقدر ما تسعى إلى زعزعة أمن المنطقة، «أرييل شارون» اختار استراتيجية العنف، لإجبار الفلسطينيين على قبول المستوطنات على أساس أنها أمر واقع على الأراضي الفلسطينية المعترف بها دوليا، كانت الأمور بالنسبة «لأرييل شارون» تندرج في إطار «إسرائيل الكبرى».
سياسة العنف التي انتهجتها إسرائيل، باستعمال كل الإمكانيات العسكرية ( سفن حربية، طائرات F16، الهليكوبترات «أباتشي»، الدبابات المحصنة، الدبابات الثقيلة) ضد شعب مدني أعزل من السلاح، لم تصحح شيئا، بل على العكس، عقدت الكثير من الأمور، وحشرت المنطقة في دموية صار يدفع ثمنها الأطفال والنساء والشيوخ.
إسرائيل لم تكن في خطر مثلما هي عليه في عهد «شارون»، ولم يكن الإسرائيليون «الواثقون» من إمكانياتهم العسكرية داخل مجال «اللا أمن» مثلما هم الآن.
إسرائيل تسببت في ذلك أيضا، بكل الوسائل التي أتيحت لها سواء العسكرية أو الإعلامية لإحباط نفسية الشعب الفلسطيني، أكثر من هذا كله، فالاتجاه نحو الهمجية المعلنة، جعلت العالم يشعر بالقرف من الإسرائيليين، وحتى المواطن اليهودي يشعر بالقرف من حكومته: الإفلاس الاقتصادي، البطالة، انعدام الأمن جعله يحمل حكومته عواقب كل ما يجري، منظمة «بيت سالم» الإنسانية مثلا، أعلنت يوم 2 فبراير الماضي أن الجيش الإسرائيلي كلما دخل مدينة أو مخيماً فلسطينياً إلا وكرر نفس المجازر: إطلاق النار على كل شيء يتحرك، بمن في ذلك الأطفال والنساء، وتدمير متعمد لمواسير المياه، وتخريب أسلاك الكهرباء، وأسلاك الهاتف، اقتحام المنازل ونهب ما يمكن اعتباره ذي قيمة، إطلاق النار على سيارات الإسعاف، ومنع الجرحى من تلقي العلاج.
داخل الجيش، ثمة ضباط يقولون لا للبربرية الشارونية، عددهم يزداد باعتراف ضابط في الجيش الإسرائيلي، الصحف الإسرائيلية تدق ناقوس الخطر: الجنود لا ينفذون أوامر رؤسائهم، لأنهم يرون أن إسرائيل «تعتدي» ولا تدافع عن نفسها تقول صحيفة جوريزاليم بوست الإسرائيلية عملية سبر الآراء التي أجرتها إذاعة إسرائيل كشفت أن 60% من الإسرائيليين يعتبرون أن إزاحة المستوطنات الإسرائيلية من الأراضي الفلسطينية أمرا حتميا، 63% يؤيدون الحق في إقامة الدولة الفلسطينية، و67 % يعتبرون أرييل شارون كارثة حلت على إسرائيل.
ثاني شيء يبدو خطيرا، يكمن في التصفيات التي تقوم بها إسرائيل ضد الكوادر الفلسطينية، حتى لو لم يعترف بها أحد، فإن الشعب يبدو مرهقا، الضربات التي تلقتها التنظيمات الفلسطينية كانت كبيرة، عدد كبير من المسؤولين الفلسطينيين في التنظيمات المسلحة تعرضوا للتصفية الجسدية، المؤسسات الحيوية الفلسطينية تعاني من العجز المالي، الإحباط العام ساهم في حالة إقحام المنطقة في مزيد من التوتر ومن الغموض أيضا، ومن يبحث عن الأسباب يجد كفة السلبية تميل إلى إسرائيل ثانية وثالثا وعاشرا، المعادلة غير متكافئة لأنها تبدو مفبركة، عندما يكون الرصاص بديلا للسلم.
اليوم، نعتقد ان الوقت مناسب للعودة إلى المبادرة السعودية رغبة في السلام.
هل على الإسرائيليين أن ينسحبوا من أراضي تعتبرها قرارات مجلس الأمن الدولي ملكا للفلسطينيين، أم أن على الفلسطينيين أن يتنازلوا عن مزيد من الأراضي للإسرائيليين؟ بمعنى هل سيكون التعايش ممكنا في ظل ممارسات قمعية إسرائيلية يراها العالم بالعين المجردة؟
ليس هنالك مخرج آخر سوى السلام، بإعادة الأرض إلى الفلسطينيين، هذا مطلب يرفضه شارون وأولئك الذين ترعرعوا على ثقافته العسكرية الراديكالية، لكن المجتمع الدولي ليس بحاجة إلى الانزلاق أكثر في مستنقعات العنف، فقد حان الأوان لسلام حقيقي لايقتل الفلسطينيين مرة أخرى.
( * ) رئيس تحرير القسم السياسي في مجلة «لوموند دبلوماتيك» الفرنسية - عن «لاكسبريس» الفرنسية - خدمة الجزيرة الصحفية
|