حلم وأمل.. التقيا في مفترق الطرق المظلمة، في زحمة أحداثهما، وعند زاوية الألم اشتركا في النواح على الواقع المرير.. كلاهما أخذت منه أيامه ما أخذت، كلاهما أضناه تعب الأحلام وتشتت التشتت، التقت الأفكار السامية عند بائع الصحف وانتفت عند بقعة من ماء المطر الطاهر، وما بين الالتقاء والانتفاء جزيرة من الضحك والبكاء، بل مملكة من محاولات الانقاذ المستمرة من العطاء والخيال المفعم برائحة تقبل ذلك الواقع الصعب، حاول حلم أن يتجرع أحلام أمل، استوعبه بين دفتي كتاب عنوانه (حتى الأحلام أيقظوها)! ودارت به عجلة الزمان إلى الخلف وتذكر تلك السنارة التي أهداها له صديقه (جون) كان فرحاً بقبول الغربة له وكان يغني أناشيد الصباح التي حفظها يوم كان طفلاً ولا يمل ترديد تلك الأغنية الجميلة (يا سعود ما شفت القمر) يرددها كلما قابل أمل في الوقت الذي يبكي وطنه ألماً لفراقه له، فقد ترك خلفه مرآته وثوبه التقليدي وغرفته التي زينها بصور (التفاح)؟! أما ساعته التي أهدتها له والدته فلا تزال معلقة في معصمه حتى في غربته كما هو معلق بين الغربة والوطن، وهو يستمتع كثيراً برؤية زخات المطر التي لا تهدأ في غربته والتي لا يراها في وطنه إلا في الشتاء القارس، فبالرغم من محبته لأصوات الرعد فهو غير مكترث لها ولا لفرحة أصدقائه الجدد به، فها هي الساعة تلاحقه وتذكره بالوقت وبوالدته وباخوته، ليقرر أخيراً إهدائها لجاره (أمل)، وليتخلص من مطاردة الذكريات له وليجد لنفسه عذراً بالاغتراب روحا وجسداً فهو لا يود مقابلة أمل حتى لا تذكّره تلك الساعة بذلك الماضي، فارتضى لنفسه التقوقع بين (الورود) الصفراء! والنوم على أطراف الأسرّة؟! فهو قد اجتاز اختيار قبول الغربة!. لذلك فالسعادة غمرته جزئياً في غربته. وأصبح كل شيء يعني لا شيء؟!.
امتطى صهوة روحه الجديدة ونسي أغنيته المحببة فصال وجال وصعد الجبال وارتقى لسلم مجد الأوراق! فهزم جيوش المنافسين الجدد واغتر بروحه الجديدة، كان سره الكبير أمل فهو يثق به كثيراً فسلمه مفاتح أسراره ولا يزال أمل ينصت بتعجب! أو كان يتكلم بجدية؟ فغادرت ذاكرة أمل لطفلة ظهرت أمامه ليس لها أيدٍ، طرقت الباب عليه ذات مرة وهي تبكي تريد قطعة خبز تبل بها ريقها فمد لها الخبز فأظهرت يدها لتأخذها؟! فكر ملياً بكنه هذا الإنسان؟! أسئلة على ما يبدو لا تقبل سوى جواب واحد فقط!!
أنهى أمل غربته (الجبرية) وعاد إلى حضن وطنه، قبّل أرضها ورفع يديه داعياً: (اللهم هب لنا المقدرة على أن نرضى صابرين بما لا سبيل إلى تغييره.. وهب لنا الشجاعة على أن نغير ما يجب تغييره.. وهب لنا الحكمة على أن نميز بين هذا وذاك...).
أما حلم فلا يزال يتسكع فكرياً بين أزقة مدينته الفاضلة حلما فينفي هذا ويتصارع مع ذاك..انتهت أحلامه ليتفرغ لمجده الورقي فهو يمتلك خزان وقود من الأحلام لا ينضب، التقاه صاحب السنارة جون.. فسأله عما إذا كان يستطيع تسلق الجبل الجليدي الذي يقف أمامه فرد عليه حلم بقولهBreak The ICE قل ماتريده بالضبط يا جون لا تخجل فأنا صديق لك؟
! ابتسم جون ابتسامة صفراء وقال دعنا نشد رحالنا فغدا سيكون يوماً حافلاً بالأحداث!! عادوا من حيث أتوا.. فخلد كل منهم إلى فراشه فنام حلم محاولاً تناسى الرعب والخوف من غده الغامض، أشرقت شمس يومه الجديد فدخل حلم قاعة الدرس وأخبره المحاظر بأنه مطلوب من قبل المسؤولين في جامعته، ذهب وهو وجل، فالأحداث بالفعل كما ذكر جون تتلاحق ولم تصل لمنتهاها بعد.. طلب منه المسؤول بأن يحضر غداً في الساعة العاشرة صباحاً لأمر هام.. جن جنونه لم يعد قادراً على التفكير، عاد لدرسه وانتهى يومه ليعود مجدداً لصومعته.. بكى كثيراً وكأنه يحس بما يخفيه له القدر، فسمع رنين الهاتف وتردد كثيراً برفع السماعة فكلما بكى بكت معه وبادلته نفس الشعور، لم يرفعها وترك الهاتف يبكي طول يومه.
انقضى اليوم الطويل ليجد المفاجأة فها هي (كاثرين) تقلب صفحات الجريدة عند المسؤول؟! بادرها ماذا أتى بكِ إلى هنا؟ وماذا تريدين؟ وكيف علمت بمكان تواجدي؟!
ردت: جئت بابن لك؟!!! هل تود رؤيته؟!
صعق حلم ولم يتوقع ذلك مطلقاً، حاول الإنكار، فأصرت كاثرين وأوجب القاضي الحكم ضده.
تبعثرت أوراق حلم وانتهت قصة حريته المزعومة، عاقر الردى وارتضى النوم على الأرصفة.
وعلم أهله بما حدث وجلبوه عنوة ليكون تحت ناظرهم فهو لم يعد كما كان فالأمراض بدأت تنهشه من كل جانب والفراغ الذي لم يعهده أوصله لمرحلة اللاشعور، ولم تعد الدنيا كما كانت وأصبحت أوراقه صفراء باليه كوجهه وأقلامه جف حيرها فلم تعد هي الأخرى ذات جدوى!.
سمع أمل عن تواجده بوطنه فعاده في يوم ممطر في بيته فلم يكن حلم كما عهده أمل بل كان منطوياً غريب الأطوار.
فتُمزق أعصابه أصوات الرعد التي حكى عن عشقه لسماعها وتنهي حلمه قطرات المطر، فأصبح عنوانه الشؤم، خرج أمل من عنده مذهولاً لما رآه، حائراً ماذا يمكنه أن يفعل لانتشال صديقه القديم من ألمه.لم تعد تفيدك الأفكار يا أمل،
دع الأقدار بأمر الله تصنع ما كتب ربك لك، فقد فات الأوان، والأيام تترى وحلم يصارع الزمن.
وبينما أمل يتسمر مع زملائه ويذكر لهم قصص الغربة الجميلة تارة والحزينة تارة أخرى..
ولم يكمل أمل حديثه حتى سمع صوت الهاتف فأجاب:
مَنْ؟
هل أنت أمل؟
نعم مَنْ تكون؟
تعال حالاً إلى المستشفى هنا حلم ينتظرك؟
منْ صديق الغربة حلم؟
حلم يريدك حالاً فهو ينازع الموت ويريدك بجانبه!
اشتد بأمل الخوف من هذا الخبر الأليم فهب مسرعاً لرؤية صديقه حلم ولكن الأقدار لم تمهله لسماع السر الأخير فقضى أمل نحبه في حادث أليم قرب المستشفى.مات أمل وبكاه كل من عرفه!!!.
(*) الرياض
|