* القاهرة مكتب الجزيرة عمر شوقي:
ما زال العديد من الخبراء السياسيين يتساءلون حتى الآن عن سر الصعود الحاد في شعبية الليكود وتحققه لنصر حاسم لمعسكر اليمين الإسرائيلي في انتخابات الكنيست السادسة عشرة، وتتويج شارون بالمعنى المجازي ملكاً على إسرائيل حسب مايردد أعضاء حزب الليكود الآن وذلك على الرغم من فشل الحزب وزعيمة ارئيل شارون في وقف الانتفاضة الفلسطينية والعمليات الاستشهادية المصاحبة لها، حيث حصل معسكر اليمين على 68 مقعدا في الكنيست بينها 38 مقعدا لليكود وبعد انضمام حزب إسرائيل بعليا أصبح لليكود 40 مقعدا، والملاحظ ان بعضاً من هؤلاء المحللين يحتسب الوسط ويمين حزب العمل من زاوية الاصطفاف السياسي ضمن معسكر اليمين، وإذا صح هذا التقدير، يصدق القول إن انقلاباً سياسياً حدث في هذه الانتخابات.
ان الانتصار الحاسم لليمين المقترن بهزيمة كبرى لليسار في إسرائيل يعني بالنسبة للفلسطينيين استمرار الحرب الدموية الإسرائيلية ضدهم، واستمرار المحاولات المحمومة لفرض شروط الحل العسكري الإسرائيلي القمعي للقضية الفلسطينية، كتثبيت فصل الأمن عن السياسة، وتوظيف طاقة الدولة المالية والسياسية في خدمة التوسع الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية، ومواصلة تقويض بنية المجتمع الفلسطيني وتحطيم مقومات استقلاله، كما يعني انتصار اليمين في الانتخابات، المشاركة الإسرائيلية في الحرب العدوانية ضد العراق وفي رسم خرائط السيطرة الجديدة على المنطقة العربية، والواضح ان هذا الانتصار لم يأت فجأة، ولم يأت من فراغ، فقد جاء حصيلة لتضافر عوامل خارجية مع تحولات داخل المجتمع الإسرائيلي، وكان من أهم العوامل الخارجية:
أولا: الموقف الأمريكي الداعم بلا حدود لحكومة شارون المتطرفة، والناجم عن التقاء إدارة الرئيس بوش الابن التي تمثل المحافظين الجدد واليمين الأمريكي المتطرف، مع اليمين الإسرائيلي بزعامة شارون، ليس في مجال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وحسب بل في مجال السياسة الإقليمية، وتحديدا في مجال إعادة ترتيب المنطقة وفرض السيطرة عليها تحقيقا للمصالح المشتركة.
لقد تطابقت إدارة الرئيس بوش إلى حد كبير مع سياسة شارون ومواقفه التعجيزية، كالشروط التي وضعها لوقف إطلاق النار والعنف، وتدميره لمؤسسات السلطة والمجتمع ودعوته لقيادة فلسطينية بديلة، وانتهاجه سياسة العقوبات الجماعية التي تغص بجرائم حرب بشعة يومية ضد شعب أعزل.
وفي مرحلة الانتخابات تدخلت الإدارة الأمريكية لمصلحة شارون، حيث جمدت التعاطي مع خطة «خريطة الطريق»، وبهذا التجميد أعفت شارون من تقديم أية إجابة سياسية في فترة الدعاية الانتخابية، ومكنته من الهروب إلى المواقف العامة التي لا معنى ولا رصيد لها، كالحديث عن التنازلات المؤلمة عوضا عن المواقف المحددة أو الملموسة، وفي المجال الاقتصادي، قدمت الإدارة الأمريكية أكثر من إشارة وإيحاء بالموافقة على المساعدة المالية التي طلبها ارئيل شارون بقيمة أربعة مليارات دولار «دعم عسكري» وثمانية مليارات «ضمانات قروض» الأمر الذي أدى إلى انعكاس ذلك علية إيجابياً وعلى مظهره أمام الناخب الإسرائيلي والمعروف أن التعارض أو التطابق الإسرائيلي مع السياسة الأمريكية يلعب دوراً أساسياً في إخافة أو طمأنة الناخب الإسرائيلي وفي دفعه نحو الاستقطاب لمصلحة الحزب الأكثر قربا وربما تطابقا مع الموقف الأمريكي وخاصة أثناء التوترات والحروب، وهذا ما حدث بالفعل.
ثانيا: حالة اللامبالاة العربية
حيث لم تمارس الدول العربية مجتمعة أو منفردة ضغوطاً سياسية واقتصادية وإعلامية، تشعر الإسرائيليين بأن سياسة التنكيل بالشعب الفلسطيني، وسياسة إدارة الظهر لمبادرة السلام العربية لها ثمن مرتفع الكلفة على الإسرائيليين، ان غياب حافز العقاب والثواب في السياسة العربية تجاه الأطراف الإسرائيلية المتنافسة في الانتخابات، جعل شارون متساوياً مع ميتسناع في أحسن الأحوال، بل لقد مكن الصمت العربي اليمين الإسرائيلي من إعادة التمسك بمقولته الشهيرة التي أطلقها وهو يعارض اتفاق أوسلو والقائلة: «ان إسرائيل تستطيع تحقيق الأمن والسلام دون إعادة الأرض والحقوق لأن النظام العربي أخذ يسلم بالأمر الواقع».
يذكر أنه في بداية الانتفاضة، كانت إسرائيل تخشى من تطور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى صراع عربي إسرائيلي. وعلى خلفية هذا التقدير ضبطت إسرائيل إجراءاتها القمعية ضد الشعب الفلسطيني في حدود مقلصة، وجاء شارون بسياسته الدموية ليؤكد خطأ هذا التقدير، وليفوز أيضا بالانتخابات.
ثالثا: سلبية العامل الفلسطيني
فقد اتسمت الانتفاضة الثانية بغياب المبادرة السياسية الفلسطينية، ولم يكن من باب الصدفة، بدء الحوار الفلسطيني الفلسطيني لصياغة استراتيجية وتكتيك في وقت متأخر جدا، وكانت المفارقة، ان الانتخابات الإسرائيلية انتهت قبل أن يتمخض الحوار عن شيء، وبقي الانقسام الفلسطيني على حاله، وخاصة بعد ضعف الاتجاه الوطني الفلسطيني بفعل الضربات الإسرائيلية المتلاحقة لمؤسساته ورموزه وفي ظل هذا الوضع المرتبك، لم تقدم أكثرية فلسطينية إجاباتها على الأسئلة المطروحة بقوة داخل المجتمع الإسرائيلي، ولم ترد على الافتراءات التي دبجتها المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة وألصقتها بالشعب الفلسطيني، كرفض السلام، وعزمه وهو شعب أعزل على تدمير إسرائيل، ولم تتمكن أكثرية فلسطينية من التوحد على سياسة واقعية واحدة، وكل هذا الغياب أو الفراغ عزز الرواية الإسرائيلية الكاذبة التي قدمت نيابة عن الشعب الفلسطيني وباسمه، وارتبطت بذلك النوع من التفجيرات العنيفة داخل المدن والتجمعات المدنية الإسرائيلية.
ان السلبية السياسية الفلسطينية التي بلغت حدا غير مسبوق، وعمليات التفجير ضد المدنيين تركت بصماتها على الناخب الإسرائيلي وعلى نتائج الانتخابات التي جاءت باليمين منتصرا، وبجانب العوامل الخارجية التي أثرت على نتيجة الانتخابات الإسرائيلية.
هناك العديد من العوامل الداخلية الإسرائيلية التي لعبت الدور المقرر في الانقلاب السياسي اليميني الذي قاده ارئيل شارون، حيث ساهمت الهجرات الكبيرة إلى إسرائيل، والحروب المتواصلة، والاستيطان التوسعي، في خلق مجموعة من التحولات الاقتصادية والديمجرافية والثقافية التي أفضت إلى استقطاب من نوع جديد مغاير للاستقطاب التقليدي الذي كان عنوانه حزب العمل، التعبير السياسي للبيروقراطية الاشكنازية ومن أهم تلك التحولات:
أولا: تأثير الهجرة الكبرى من الاتحاد السوفيتي وروسيا الاتحادية على الدولة الإسرائيلية من الناحية البنيوية والسياسية، وعلى الاستقطاب الجاري، ولكن ضمن وجهة مغايرة إلى حد كبير للاستقطاب التقليدي، لقد أضاف المهاجرون الروس ما نسبته 25% من السكان للمجتمع الإسرائيلي، وبدأت أكثرية هؤلاء تندمج وتستقطب داخل معسكر اليمين والوسط، فقد أعطى 40% من المهاجرين الجدد أصواتهم لحزب الليكود وحده، وكان نصيب حزب العمل أقل من 15%.
ثانيا: أصبحت الهوية اليهودية في مركز الاهتمام، بعد أن أخلت لها الهوية الإسرائيلية التي كرستها البرجوازية الاشكنازية، وذلك بفعل تأثير المؤسسة الدينية وامتداداتها السياسية داخل المجتمع والدولة وقد حدث هذا التحول منذ أن أقر الكنيست القانون الأساسي عام 1992 والذي جاء فيه: «جميع اليهود هم يهود والدولة كذلك دولة يهودية»، وشكل هذا الإقرار انتصارا لليهود الذين تمردوا على الأرثوذكسية الاشكنازية، وسجل ازديادا في قدرة الأحزاب الدينية على إملاء شروطها داخل مؤسسات المجتمع والدولة، وخاصة بعد أن تغلغلت وسط الطبقات الدنيا، وطرحت المصالح الخاصة للفئات الاجتماعية والاثنية في إطار المجتمع المنقسم والمتفاوت النمو، حيث تتضاعف نسبة المواليد لدى جمهور اليهود الشرقيين، وتحدث خللا متراكما في النمو الديمغرافي لمصلحتهم.
ان هذا الاختلال والتغير الذي طرأ على الهوية الجمعية للسكان، دفع حزب العمل قبل الانتخابات إلى حذف البنود التي تنص على، فصل الدين عن الدولة، وتجنيد أبناء المدارس الدينية، وتعديل قانون الإجهاض، من برنامجه الانتخابي، في محاولة لمغازلة تلك الفئات من الشرقيين والمتدينين، ولكسب نسبة معقولة من أصواتهم، لكن الحذف لم يسعف حزب العمل، ولم يخرجه من مأزقه، فقد تخلخلت السطوة الثقافية السياسية للاشكنازية العلمانية، وظهرت ثقافات شبه مستقلة ومنفصلة عنها، كالثقافة الأرثوذكسية الدينية المعاصرة، والأرثوذكسية القومية، واليهوديةالقومية غير الصهيونية. واليهودية الشرقية التقليدية، والروسية، والأثيوبية، والعربية.
ثالثا: احتل مجتمع المستوطنين المتدينين القوميين مكانة المستوطنة في المجتمع الإسرائيلي، وقد ترك المستوطنون المنتشرون في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ضمن مستوطنات استفزازية الطراز بصماتهم على مواقف وبرامج وموازنات وسياسات الحكومة الإسرائيلية وتكتيكها التفاوضي، إلى درجة تسميتها بحكومة المستوطنين من قبل الكثيرين داخل إسرائيل وخارجها، وقد لعب المستوطنون دوراً مميزاً في انتخاب الأب الروحي والميداني للاستيطان في الأراضي الفلسطينية دون حسيب أو رقيب، ارئيل شارون وحزب الليكود.
رابعا: نشأت طبقة متوسطة من رجال الأعمال والأكاديميين والباحثين والفنيين المرتبطين بشبكات اتصال إلكترونية في شتى أنحاء العالم، وتضم هذه الطبقة الجيل الشاب الذي أوجد لنفسه وظائف بعيدا عن الكبار، ويتوزع انتماء هذه الفئات بين العمل وشينوي وبين مقاطعة الانتخابات.
خامسا: تبلور أقلية عربية 20% من السكان، لا يحق لها ان تكون شريكة كاملة في المجال العام الذي تدار فيه الصراعات لبلورة صورة وهوية وطابع الدولة، وتتعرض هذه الأقلية لتمييز عنصري، ولخطر الإبعاد أو الترانسفير الذي بات يطرح في نطاق متزايد لتفادي ما يسمى بالخطر الديموجرافي الذي يهدد ما يعرف بهوية الدولة اليهودية.
ان هذه التحولات أثرت بشكل ملموس على الخرائط الاجتماعية والسياسية داخل إسرائيل، وأخذت تنعكس على نتائج الانتخابات، فجاءت بشارون منتصرا.
|