بالرغم من الحصار النفسي والاقتصادي والعسكري الذي يحيط بأمتنا العربية والإسلامية، وبالرغم من تسارع الصراع العالمي بين معسكر الكذب ومعسكر الحقيقة، أو بين معسكر الظلم ومعسكر العدالة، هنالك حقيقة لا نستطيع أن نغفل عنها وهي أن المملكة العربية السعودية قدمت للعالم، وفي فترة وجيزة، مشهداً ثقافياً «تجلى في مهرجان الجنادرية» ومشهداً دينياً «تجلى في مناسك الحج» وفي كليهما استحقت هذه الدولة العربية كل الاحترام.
لقد شنّت أجهزة الإعلام الأمريكية أوسع هجمة على السياسة السعودية الداخلية والخارجية، وأضرمت نار الشك في مدى جدوى علاقة الحليف الأمريكي بحليفه السعودي. واتخذت أجهزة الإعلام الأمريكية هذا الموقف وكأنه توجيه رسمي، وأطلقت مقالاتها وتقاريرها وتحليلاتها، لتبرر للرأي العام في بلادها السياسة الأمريكية الجديدة هذه تجاه الحليف التقليدي. ولم تر هذه الأجهزة الإعلامية التي غدت شبه رسمية في حملتها ضد السعودية أي غضاضة. بدأت باتهام شخصيات سعودية مرموقة انها تقوم بتمويل الإرهاب كما جاء في القصة الملفقة حول الأميرة هيفاء الفيصل. واستمرت باتهام الجمعيات الخيرية الإسلامية حول العالم التي يساهم أفراد سعوديون في مد يد الخير إليها بأنها منظمات إرهابية. ولم يتوان هذا الإعلام عن تلفيق تصريحات متطرفة على لسان مسؤولين سعوديين سواء أكانوا أصدقاء أم كانوا أشخاصاً رسميين ملتزمين بخط الدولة أم كانوا مواطنين سعوديين عاديين أم كانوا طلاباً. وتمادت أقلام الإعلاميين الأمريكيين وميكروفوناتهم وكاميراتهم بتوزيع التهم هنا وهناك حتى إنها لم توفر الهيئة الدبلوماسية السعودية في الولايات المتحدة أو أوروبا فوجهت سهامها إلى سفراء على درجة عالية من الإبداع والثقافة والإنسانية فوصمتهم بتهمة تشجيع الإرهاب. بل لم تدع هذه الهجمة الشرسة شيئا يفوتها حتى إنها طالت مناهج التدريس في المدارس الحكومية السعودية.
فغدت الصورة الكاملة وكأنها لم تترك نافذة واحدة دون أن تفتحها بأقلام الكتاب الإعلاميين الأمريكيين من أصوليتهم وصهيونيتهم موزعين على النوافذ قناصاً إعلامياً صهيونياً حاقداً هنا، وقناصاً إعلامياً أصولياً متطرفاً هناك، يصوبون بندقياتهم على هذه الشخصية السعودية أو تلك.
أقلقت هذه السياسة الطفولية وأزعجت أي من المعجبين بالمؤسسة الإعلامية الأمريكية وزعزعت إيمان اللاهثين وراء مقولة حرية الصحافة والإعلام في أمريكا. لكن، بعد هبوط الإعلام الأمريكي في هجومه على الصديقين والحليفين الأوروبيين التقليديين «فرنسا وألمانيا»، وانزلاق كتاب وصحفيين من جريدة النيويورك تايمز، ومراسلين ومذيعين في السي إن إن، وغيرهما من جبابرة الإعلام الأمريكي، إلى مستوى الردح الإعلامي، بل الردح الإعلامي الرخيص، عمرتنا الطمأنينة على المملكة العربية السعودية ومواقفها الثقافية والدينية والدبلوماسية.
أمثلة الردح الأمريكي الجديد كثيرة منها: سخرية أجهزة الإعلام في نيويورك وواشنطن من الشعب الفرنسي «وليس الحكومة الفرنسية كما هو متوقع» بأنهم أكلة الجبنة ذات الرائحة المنتنة وشاربو النبيذ وبأنهم النائمون على ظهورهم باستسلام بينما كان الجيش الأمريكي يحرر لهم وطنهم من النازية، ويأتي بعدها الدولار الأمريكي في مشروع مارشال ليعيد لهم بناء باريس وغيرها. وكذلك استمر الردح بهجوم الإعلام الأمريكي على ألمانيا وتذكيرهم بخطيئة هتلر والمحرقة والشخصية الألمانية المتعجرفة.
لنترك الآن ضوضاء الهجمة الإعلامية الأمريكية ونعود إلى أرض الواقع، ولنبدأ بالإنجاز الثقافي والفني الكبير في الجنادرية، وأعني موسمها الثامن عشر لهذا العام. فقد تجاوزت السعودية فكرة الإقليمية في المهرجان وانطلقت به إلى الآفاق العالمية، ودعي إلى هذه التظاهرة الثقافية الحاشدة مجموعات كبيرة من العلماء والمفكرين والأدباء والفنانين من العالم أجمع، العربي والإسلامي والغربي.. كانت كل الظروف تعطي السعودية مبرراً لتقلص من حجم المهرجان أو تقلل من عدد المدعوين أو حتى الدعوة لتأجيله بسبب الظروف القاهرة. ولكنها فضلت الموقف الإيجابي.
تحدت الفعاليات في الجنادرية لهذا العام في مضمونها وتوقيتها الأوضاع السائدة في المنطقة. واستطاعت أن تخرج للعالم مشهداً ثقافياً واضح الرسالة بمضمون يشدد على سماحة ديننا وطيب أخلاقنا واستنارة عقولنا وانفتاحنا على الآخر وقبولنا بمبدأ الحوار واحترام الغير. هذا ما قرأناه في الجنادرية من خلال الندوات والحوارات والنشاطات الكثيفة التي تضمنت محاور شارك فيها جميع الأطراف أهمها ما جاء حول الإسلام وعلاقته بالعالم.
لم تختلف هذه الصورة المشرقة في إيجابياتها من حيث ناحية المشهد الديني. فقد قام موسم الحج لهذا العام بشكله الطبيعي بالرغم من الظروف غير الطبيعية التي تعصف بالمنطقة. كان من الممكن للمملكة العربية السعودية أن تقفل الأبواب في وجه قوافل بعض الدول التي لعبت حكوماتها في ملعب الهجمة الأمريكية الحالية، أو التي سبق لحجاجها أن أفسدوا موسم الحج في الماضي. وكان من الممكن أن تقلل عدد الحجاج لهذا العام بحجة الأمن الوطني السعودي وحفاظاً على أرواح وممتلكات الحجاج. أو كان من الممكن أن تتحجج بخوفها على الناس في الموسم من أمراض وبائية كالسحايا أو أي من الأسلحة الجرثومية الفتاكة كما حدث في أمريكا مع الجمرة الخبيثة. أو كان من الممكن أن تتذرع السعودية في إيقاف فيض الحجاج القادمين بالطائرات مثلا بحجة احتمال قيام الحرب لأن أمريكا لا تقيم وزناً للإسلام ولا لمواسمه الدينية كرمضان أو غيره.
بالرغم من كل ذلك، وأكثر، لم تتقاعس السعودية عن القيام بواجبها في رعاية موسم الحج وخدمة زوار الحرمين الشريفين كما كانت رسالتها عبر عقود طويلة من الزمن. ولكنها في موسم هذا العام، زادت حيطة وحذراً في أن يكون الموسم مميزاً وخالياً من الأخطاء التي كانت تقع بين الحين والآخر في السابق، وذلك حرصاً على سمعة الإسلام في الوقت الراهن، أولاً وآخراً.
لقد أضاءت المملكة العربية السعودية سماء مهبط الوحي وأرض آخر الرسالات السماوية بشموع من سعف نخل الجزيرة وأطعمت كل زوار الحرمين الشريفين من تمور نخيلها بما في هذا التمر من معاني ورموز لا تخفى عن المطلعين على تاريخ الإسلام. كانت السعودية تعرف تمام المعرفة أن موسم هذا العام سيقع تحت أقوى المجاهر الإعلامية الغربية لتتصيد أقل خطأ وأبسط تجاوز تقع فيه سلطة الحج، حتى يضخم ويؤخذ عليها وعلى الإسلام ممسكاً ليضاف إلى قذائف الهجمة الشرسة التي ما برحت تطال عقيدتنا السمحة وتنال من المملكة بالذات. فقامت الأجهزة الإعلامية الأمريكية، والبريطانية بالأخص، واستخرجت من الأرشيف كل صور الكوارث التي حدثت في موسم الحج، وذكرت العالم بمأساة نفق المعيصم وحريق مخيم الحجاج الايرانيين والعملية التخريبية في أقبية مكة بالثمانينات، والتدافع الذي قضى جراءه عدد من الحجاج في رمي الجمار العام الماضي.
لكن الصورة في موسم هذا العام كانت مخيبة لآمال المبغضين. فقد أنجزت المملكة العربية السعودية مؤخرا في المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف كثيرا من التوسيعات في الساحات والمداخل والخدمات الاجتماعية والإنسانية، وركزت على مضاعفة خدمة المواصلات وانسياب التنقل على الطرقات لتخفيف الأعباء على الناس والحدّ من المضايقات والاختناقات المرورية، وضاعفت جهود الأمن والحماية الشخصية لكل فرد بحيث كانت هناك دروع بشرية من رجال الأمن، وليس من آلياته، وذلك لضبط حرية تدفق جموع الحجاج الكثيفة في الأماكن المختلفة كمنى وعرفات والمزدلفة وغيرها.
وانقضى موسم الحج من غير حادثة يطرب لها المبغضون ويتغنى بها الحاسدون. وهذا إنجاز تفخر به أية دولة وتتباهى به أية أمة. انه أمر يسوء العدو ويسر الصديق.
جرى في السوق بمكة المكرمة يوم وفقة عرفة حادث مروري أدى إلى وفاة بعض الأشخاص. إنه حادث مجرد حادث مروري لا علاقة له بزوار بيت الله الحرام ولا بمناسك الحج. إنه حادث عادي من الحوادث التي تقع في أي مكان على طريق السير السريع في أمريكا أو بريطانيا بسبب أخطاء بشرية. يحدث مثل هذا في مباراة لكرة القدم، أو في تظاهرة لنيل توقيع أحد أفراد فرقة البيتلز، أو في تزاحم الركاب على امتطاء القطار عشية عطلة الميلاد. لكن حادث سوق مكة يوم وقفة عرفة هذا العام فتح شهية الإعلام الأمريكي والبريطاني المتأهب كالذئب الكاسر فأطلق نشرات أخباره بطريقة النبأ العاجل «بريك نيوز». وعلى طريقتهم التقليدية ضخموا وهولوا وأوحوا للمشاهدين أن فاجعة مروعة بدأت خيوط أنبائها تتكشف للعالم، فانتظروا يا أيها المشاهدون مزيدا من الأخبار. مع مرور الساعات، لم يرد شيء يزيد على أن ما حدث لا يعدو كونه حادثاً مرورياً عادياً يمكن أن يحدث حتى في شارع بنسيلفانيا بواشنطن غير بعيد عن البيت الأبيض أو في شارع داونيغ بلندن غير بعيد عن رقم عشرة.. وكلما تكشفت خيوط الخبر تكشف سوء نية الإعلام الشرس الهاجم على المملكة العربية السعودية. والعجيب في الأمر، أنه فيما كانت أجهزة أمريكا وبريطانيا الإعلامية تضخم بخبر الحادث المروري في سوق مكة حيث يسرع زوار بيت الله الحرام في شراء السلع التذكارية قبل السفر، تدافع في صالة للهو والسهر حوالي ألف وخمسمائة من الراقصين والراقصات وداسوا فوق أجساد بعضهم بعضاً وهم يهربون خائفين من معركة نشبت بين ثلاث نساء كن في حلبة الرقص يتبادلن اللكمات على شاكلة أفلام الكاوبوي في هوليوود. حصيلة هذا التدافع والنفار في صالة شيكاغو كان مصرع ثمانية وعشرين وجرح المئات. فألقم القدر أجهزة إعلام المبغضين والحاسدين أكبر حجر.
مهما يكن من أمر صالات الرقص والنوادي الليلية في شيكاغو أو لندن أو نيويورك أو واشنطن، فان أحدا لا يستطيع أن ينكر التقاليد العريقة والثوابت العميقة والقيم السمحة لجميع الديانات السماوية. ومهما علت صفارات الحروب في آذان البشرية، فهنالك صوت الحق والإنسانية الذي يعلو فوق كل الشرور، وبالأخص إذا كان صوتاً يخرج من قلوب الشعوب المؤمنة برب السماء. في الحرمين الشريفين هذا العام، وككل عام سبقه، تساوى الفقير والغني، والحاكم والمحكوم، والأبيض والأسود، والأشقر والأسمر، كما تساوى الإنسان المسلم الغربي بالإنسان المسلم العالمي أينما كان، استووا جميعا في أرض آخر الرسالات السماوية، وعلت هتافات «الله أكبر» فوق كل ضجيج الجبابرة، وأعلى من ضوضاء كل الدول المتعجرفة بترسانتها العسكرية، وتوحد أفراد الشعوب قاطبة وهم يهللون ويكبرون متوجهين إلى خالق السماوات والأرض أن يغفر الذنوب.
|